وعاد الرجل إلى بيته مطأطئ الرأس أشعث الشوارب، وهو يجفف العرق الذي يغطي جبهته، ويسرع في مشيته ثم يبطئ ويتلمظ ويسعل، وأخذ يتحدث وحده، فهو يرى نفسه يجابه الجميع - الصبيان والعمال والحرفيين الصغار وتجار الجملة - ويبتسم للبعض ويشد على يده، بينما يتشاجر مع آخرين، وفي النهاية يتفق مع الجميع، فهو يقنعهم ويغريهم ويخدعهم، وها هو يصل إلى بيته منهكا.
وعند مفترق طرق؛ حيث يتفرع طريق يتجه نحو جاليا فرجيلوي، يقبع منزل الحاج في أقصى حديقة ملتفة، ويفتح باب الردهة ثم يغلقه، ويدير في سرعة المفتاح مرتين، ثم يدخل حجرة صغيرة مظلمة، ويوقد شمعة ويجلس على الفراش ورأسه بين يديه ومرفقاه على ركبتيه.
الجدران مشققة وصفراء، وكتل خشب السقف سوداء ومغطاة بطبقة من التراب، وفوق الأيقونات صورة للقديسين، تكاد تكون ممحوة، والسرير مغطى بنوع من السجاد الطويل الوبر، والمخطط بخطوط بيضاء وحمراء ، وإلى الحائط، أسندت وسادتان مليئتان بالقش، وعند مكان الرأس وسادة ثالثة مغطاة بكيس قذر، والأرض مرصوفة بحجارة عارية وباردة، والحجرة حزينة مظلمة وكأنها قبر، ومن الخارج لا يجرؤ الإنسان أن يلقي نظرة من خلال الزجاج الذي لا يتجاوز ربع صفحة من الورق خوفا من أن يرى في الداخل جثثا ممدة على ظهرها.
وقفز الحاج وأطفأ الشمعة، قائلا: «لا داعي للتبذير، ولست في حاجة إلى الضوء لكي أفكر! آه يا إلهي! يا إلهي! كم أنت طيب وحكيم، لو أن الشمس لم تكن موجودة، فكم من الشموع كان يلزمني لكي أضيء الحانوت بالنهار! يا لها من تكلفة!» ولم يكد يقر في الفراش حتى أخذت أنواع من الأفكار تغزوه لذيذة ولطيفة أولا ثم قلقة وداكنة.
أي سعادة في أن أكون وحدي يا سيد الدكان! لقد كان المعلم رجلا طيبا، ولكن مع ذلك مفتاحان للخزينة الواحدة، ويدان تتعاملان مع النقود، عشرون إصبعا تتجول فوق قطع النقود، أربعة جيوش وحسابان مختلفان، من يدرينا! قد يقع خطأ بسرعة، وقطع النقود بالغة الصغر، من الممكن أن تنزلق من بين الأصابع، وتسقط في الجيب ... في الكيس ... في حشو الملابس ... لقد كان معلمه رجلا طيبا شريفا، ولكنه كثيرا ما كان يتسامح مع العمال والموظفين والصبيان عندما يكسرون، أو يتلفون شيئا في الحانوت، وإذا جاء شحاذ أو اثنان أو عشرون، تكررت نفس الحكاية: «يجب إعطاؤهم شيئا ففي هذا بركة لأطفالنا، حسن جدا، ولكن الحاج ليس له أطفال، ونصف المال المبذول كان ثمرة عمله، والنقود ملكه ومتعته وسعادته، ثم إن المعلم كان يضطر إلى شراء ملابس وشمع لعيد الفصح، كما أنه كان مضطرا أن يدفع للإحسان والأعياد الدينية عندما كان المعلم يسحبه مرغما إلى الكنيسة ثم الصندوق!
أي فزع كان يوحى به للحاج! وكان الحساب واضحا، فوجبات الطعام يقدمها المعلم، ومكانته عند الناس وسمعته لا تعوض إسرافه في الكرم، والملابس الضرورية لتلبية دعوات الزيارة ... ونفقات الإحسان الباهظة، وفوق كل شيء عدم خبرته في تجارة الأشرطة المطرزة.
ويتململ الحاج في فراشه، فسعادته أكبر من أن يتحملها، وهو لا يستطيع النوم، فيضحك ويتنهد ويظل مستيقظا، ومع ذلك يحلم، ويا له من حلم رائع! ... آه! يا ليته يدوم دائما! وفي هذا الجو الخانق وهذه الظلمة، كم يكون رائعا أن ينتصب ليرى إلى جواره كومة من الذهب آخذة في الازدياد، وكأنها نهر يفيض على شاطئيه، ويرتفع من القدمين حتى قمة الرأس ... آه! كم سيكون الحاج إذن مثلوج الصدر؛ لأنه سيكون عندئذ قد رأى وجه الرب وخلوده قبل أن يسلم الروح، وإذا جاءه الموت ممسكا منجلا من الذهب فإنه سيمسك شباته بكلتا يديه!
قطرات المطر تدق الزجاج والحاج ينتفض وليس هناك أحد، ويجفف العرق الذي يتفصد من جبينه، وتلهث أنفاسه وكأنه يصعد تلا حاملا ثقلا على كتفيه وقلبه يدق، فحلم الموت السعيد الذي رآه قد تحول فجأة إلى حياة مليئة بالفزع، وتتساقط قطرات ثقيلة مجلجلة على الزجاج ... وفكرة أنه من الممكن أن يسطو عليه أحد تجعله يقفز من الفراش ويوقد الشمع، وهو شاحب كقطعة من القماش الأبيض، وشعره الطويل المشعث يتدلى في خصلات متناثرة فوق قفاه وفوق جبهته، ويلقي نظرة إلى الأيقونات، ويرسم علامة الصليب ويتذكر الرب، نعم يتذكر الرب، ويقول لنفسه: إنه إنما يشقى على الأرض بسبب الكسالى واللصوص، وإذا سرقوه فإنهم لن يسرقوا الحقيبة ذات المائة ألف دينار المدسوسة تحت الفراش فحسب، بل سيسرقون روحه، ويسرقونها عشرة آلاف مرة؛ لأنها منصهرة في كل من القطع الذهبية، وهو لم يعرف قط معنى الأرقام عشرة ومائة وألف، فليست إلا ألفاظا وأرقاما مرسومة على الورق أو محفورة، وفي العشرة آلاف قطعة ذهبية كان قد وضع قلبه عشر مرات، فالمائة قطعة تحتوي على قلبه مائة مرة، والألف ألف مرة، والمائة ألف لا تمثل بالنسبة له كومة من الذهب، بل مائة ألف من أطفاله، وكل منهم يجسد ملامحه وجزءا من ذاته، وهذا هو السبب في توجه أفكاره في تلك اللحظة نحو الرب. «سأشعل المسرجة بالقرب من الأيقونات، وإن يكن الرب الرحيم يرى بالتأكيد بوضوح حتى في الظلام»، قال ذلك الحاج وهو ينهض لكي يتجه بخطى تهزه نحو الصور المقدسة.
وأخذ في عناية الزجاجة التي تستخدم كمسرجة، ووضعها على الفراش، وضغط بأصابعه لكي يقيم الذبالة، وصب في الوعاء القذر محتوى الزياتة، وقاس بنظره سمك طبقة الزيت قائلا: «إصبع من الزيت! إصبع! هذا كثير! ... هذا تبذير ... النهار سيبزغ قريبا ... وجلالة الرب لن يستطيع أن يرى هذه الذبالة الصفراء، عندما تغمر الشمس العالم بالضوء.
ووضع الزجاجة في طاسة من الفخار وسكب فيها ماء، فتسرب الزيت إلى قاع الطاسة، ولم يبق منه في الزجاجة إلا طبقة في سمك شفرة السكين.
Shafi da ba'a sani ba