فشعرت كأنه لم يكن ينصت إلي، ولكني عندما سكت عاد إلى نغمته الأولى عن رجال الذهن، فأشار إلى تذبذبهم نحو البولشفية ثم التفت إلي وقال هذه الكلمة الصادقة: «لقد أخرجنا روح التدمير من الظلمة وأوجدناه، فليس من الحق بعد ذلك أن ننكر أننا نحن علة وجوده؛ فالبولشفية هي النتيجة التي لم يكن ثم مناص منها لجميع ما قام به رجال الذهن في محاضراتهم في الجامعات وفي مقالاتهم في الصحف وفيما كانوا ينشرونه سرا».
وهنا مرت بنا امرأة جميلة فحيته تحية الوداد، فنظر إليها نظرة جافية كأنه لا يكترث لها. فتركتنا وعلى شفتيها ابتسامة الارتباك. ثم أتبعها بعينيه ينظر إلى قدميها الصغيرتين المترددتين وقال لي: «ماذا تظن في الخلود. في إمكان الخلود؟».
وكان في سؤاله لهجة إلحاح تتبين العناد من نظرته، فقلت له: ربما كان لاميناس صادقا في قوله بأنه ما دامت المادة الموجودة في الكون محدودة فيجب أن يتكرر امتزاج هذه المواد عدة مرار على مدى الأبدية؛ وعلى هذا فمن الممكن أنه بعد ملايين من السنين في مساء أحد الأيام سيجلس هنا في «بستان الصيف» بلوك وجوركي يتحدثان عن الخلود مرة أخرى.
فقال: «هل تتكلم بجد؟».
فدهشت من إلحاحه بل شعرت كأنه يحرجني، ولو أني شعرت أنه لم يسألني عن فضول بل عن رغبته في إزالة خاطر قد علق به كالوسواس يزعجه ويقلقه.
فقلت له ليس هناك من سبب يدعوني إلى اعتقاد أن رأي لاميناس في هذا الموضوع أقل وجاهه من رأي الآخرين الذين كتبوا فيه.
فصك الأرض بقدمه وهو يتململ مع أنه قبل هذه الليلة لم أكن أعهد فيه سوى الصمت والتحفظ. ثم قال: «ولكن عن نفسك. عن نفسك ماذا تعتقد؟».
فقلت: «أما عن شخصي فإني أعتقد أن الإنسان هو أداة تتحول بواسطتها المادة الميتة إلى قوة نفسية، وأنه في أحد الأزمنة الآتية بعد دهر طويل في المستقبل البعيد سيحول الإنسان هذا الكون بأجمعه إلى قوة نفسية لا مادة فيها».
فقال: «لست أفهم ما تعني: تريد عالما روحانيا؟» فقلت: «كلا، فإن الكون كله سينقلب فكرا مجردا، وستزول كل مادة لأنها ستصير فكرا مجردا، فلا يبقى غير الفكر الإنساني يحتوي على لمحات الإنسان الأولى إلى اللحظة الأخيرة حين يتفجر».
فقال وهو يهز رأسه «لست أفهم ما تعني» فأشرت إليه بأن يتوهم الكون باعتباره انحلالا دائما للمادة، والمادة في هذا الانحلال تصدر عنها قوات مختلفة مثل الضوء والأمواج الكهربائية المغنطيسية والأمواج الهرتزية وما إلى ذلك؛ فالفكر هو أيضا انحلال مادة الدماغ، وليس الدماغ سوى تآلف بعض المواد الميتة، ففي دماغ الإنسان تتحول هذه المادة على الدوام إلى قوة نفسية، وهذه القوة ستتآلف أجزاؤها وترتاح إلى التأمل في ذاتها وفى قواها المبتكرة العديدة المختبئة فيها.
Shafi da ba'a sani ba