لكن لكل أجل كتابا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. وبعد أربعة أيام من الحديث العنيف، الذي جرى بين عزيز وأمه وزوجها، أسلم شحاتة روحه، برغم عناية الطب، وعناية زوجه وابنه. وشيعت جنازته، وأقيم مأتمه بما يتفق مع واسع ثروته.
وحسم موته ما فرضه على رجاء من الاختيار بينه وبين ابنها، فالتقيا على قبره وكفل نصيبها ونصيب ابنتها الصغرى في الميراث، للأسرة كلها، عيشا كريما.
وتولى ابن شحاتة إدارة التجارة لحسابهم جميعا، وإن أصر عزيز على ألا يزوجه شقيقته!
الدين والوطن
كانت رقيقة غاية الرقة، ذكية غاية الذكاء، أكثر اعتزازا بذكائها منها بجمال يلفت النظر. ورثت من أمها الشركسية بياضا وصفاء لبشرتها، ومن أبيها الصريح في مصريته جاذبية قوية في نظراتها باسمة الثغر، معتدلة القوام، لولا ذكاؤها النفاذ، الذي يسمو بها فوق كل اعتبار سواه، لكان لها أن تتيه ما شاءت بجمالها.
وقد تفوقت «سمية» على زميلاتها في الجامعة، تفوقا أدى إلى اختيارها حين حصلت على درجتها الجامعية، لتتم علومها بباريس. وذهبت إلى العاصمة الفرنسية، والتحقت بالسوربون لتحصل على الدكتوراه. وقد أتاح لها ذكاؤها أن تتابع في معاهد الدراسات العليا العديدة، التي يفخر بها حي باريس اللاتيني، محاضرات مختلفة في الفن والأدب، جعلت من ثقافتها العامة عالما فسيحا، وصقلت منطقها وتفكيرها، فإذا تحدثت سعد المستمعون إليها بأعذب متاع وأدسمه.
وكانت الجمعية الإسلامية في باريس تجتمع مساء الجمعة من كل أسبوع، في بهو من أبهاء الجمعية العامة للطلاب، وكان يحضر هذه الاجتماعات شبان مسلمون من كل الجنسيات. كان يحضرها أبناء البلاد العربية، ويحضرها التركي والإيراني والروسي والهندي والصيني وغيرهم من شبان العالم الإسلامي، المنتشرين في أرجاء الأرض المختلفة. ولم يكن يحضر هذه الاجتماعات من الفتيات إلا قليلات، كن يترددن عليها أحيانا وينقطعن عنها أحيانا، خلا «سمية» فقد كانت حريصة على أن تشهد الاجتماعات كلها، وكانت - على خلاف زميلاتها - لا تأبى أن تشترك في مناقشات الجمعية، مؤمنة بأن هؤلاء الشبان الذين يحضرون جلساتها سيكون لهم في نهضة العالم الإسلامي عما قليل أبلغ الأثر.
وكان من هؤلاء الشبان متحمسون بالفعل للعالم الإسلامي ونهضته أشد التحمس، فكانوا يثيرون في مناقشاتهم أحداثه، ويعلقون على هذه الأحداث، ويتخذون في بعض الأحيان قرارات يبلغونها لدولة أو أكثر من دولة، أو يحتفظون بها لأنفسهم، ويعتبرونها عهدا مقطوعا على كل واحد منهم أن يحققه في المستقبل.
كان «سليم سولوكوف» من أكثر أعضاء الجمعية الإسلامية تبريزا بين إخوانه، وكان شابا روسيا، من «جورجيا»، وسيم الطلعة، أسود الشعر، نحيفا، قوي الصوت في اتزان، رضي الخلق محببا بذلك إلى كل إخوانه، وقد اختاره زملاؤه رئيسا للجمعية، فاعتذر لهم شاكرا حسن ثقتهم؛ لأن مشاغله في دراساته تحول دون قيامه بأعباء الرياسة على الوجه الذي يطمئن له ضميره. وقد كان إذا تكلم عن الإسلام والمسلمين سما بتفكيره فوق المألوف من كلام سائر الأعضاء، فأصغى الكل له في إعجاب وإكبار، وأفضى بعضهم إلى بعض بأن هذا الشاب النابه سيكون له في المستقبل شأن عظيم.
وكانت «سمية» من أشد المعجبين بسليم، وكان هو شديد الإعجاب بها، وأدى تبادلهما الإعجاب إلى تقاربهما، ثم إلى صداقتهما، وكانا كثيرا ما يتحدثان عن العالم الإسلامي، الناهض في ذلك الحين إلى الحرية وإلى الكرامة، لينسى ما فرضه السلطان الأجنبي عليه من مذلة قرونا عدة، فكانت آراؤهما تلتقي عند آمال يسعد بها هذا العالم، ويطمئن لها الدين القيم.
Shafi da ba'a sani ba