مع هذا كله، لم يخلف تركة تذكر!
وقد توفي عن زوجة وثلاثة بنين. أما زوجته «رجاء»، فكانت سنها تدور حول الأربعين، ولكنها كانت تبدو وكأنها لم تجاوز الثلاثين إلا قليلا. وكانت على حظ عظيم من الجاذبية، كان في عينها بريق يمسك إذا نظرت إليها، فلا تزال محدقا بها، مأخوذا بما ترى من حلو ملامحها، وما تسمع من سحر حديثها. وكانت لنبرة صوتها موسيقى، قل أن وهبت واحدة من بنات حواء مثلها ، طلاوة واستهواء لسامعها. وكانت معتدلة القوام، ممتلئة في غير سمنة. وكانت تحب زوجها كل حياته أعمق الحب، وترى مجده تاجا لها، تزدان به، وإن لم تتزين بحلية ثمينة تباهي بها غيرها من النساء المتزينات.
وكان أكبر ولدها، شاب في الثانية والعشرين من سنه، وقد أتم دراسته الجامعية، وحصل على إجازة الآداب بتفوق. على أنه كان أشد اعتزازا بمجد أبيه، منه بتفوقه. وكان يرجو أن يسير على نهج هذا الوالد الكريم، فيبدأ معيدا بكلية الآداب لينتهي عميدا لها، كما كان أبوه عميدا.
وكان لعزيز أخت تصغره خمس سنوات، وأخ يصغر هذه الأخت خمس سنوات كذلك.
وقد لبست الأسرة كلها الحداد على ربها، وتولاها حزن عميق على هذا المصاب الفادح. وكانت رجاء أشد من أبنائها شعورا بالكارثة؛ فتركة أبيهم ومعاشه لا يكادان يكفيانهم العيش الكريم الذي تعودوه طول حياته. صحيح أن عزيزا يوشك أن يعين معيدا بالكلية، فيعينهم مرتبه بعض الشيء، لكن هذا العون لم يكن شيئا مذكورا إلى جانب ما كان الأب يكسبه من قلمه، ومن كتبه، ومن المرتب الذي كان يزيد على ضعف معاشه. •••
وبعد زمن، انقضت في أثنائه المواسم المألوفة للحزن على الذين يتوفاهم ربهم، تقدم لخطبة رجاء تاجر واسع الثراء، توفيت زوجته منذ أشهر، تاركة له ولدا وحيدا. ونمى إلى عزيز نبأ هذه الخطبة فذهب إلى أمه يسألها: أحق ما سمع؟ وأجابته رجاء: هو حق يا بني، وأنت شاب عاقل، تقدر الأمور حق قدرها. أنت تعلم كم كنت أحب أباك، وكم كنت فخورة به، وكم كنت أتمنى - لو استطعت - أن أظل على الوفاء لذكراه بعد موته، كما وفيت له في حياته. لكنك تعلم كذلك أنه تركنا، ولا تكاد تكون له تركة تقيم الأولاد. ولا أريد أن تعيش أختك، ويعيش أخوك، في ضيق بعد أن تعودوا رفه الحياة وسعتها. هذا إلى أنني امرأة لم تتخط الشباب، ولا أريد أن يتحدث الناس عني بكلمة تؤذيك، أو تؤذي أختك وأخاك.
كان عزيز يسمع هذا الكلام من أمه، ولا يكاد يصدق أنها هي التي تتكلم. فمعنى ما تقول أنها قبلت خطبة هذا التاجر لثروته، وأنها تريد أن تعيش أخته، وأن يعيش أخوه، من هذه الثروة التي لم يكسبها أبوهم. فكأنما تريد أن تبيع نفسها من أجل ولديها!
وصمت الشاب طويلا، بعد أن أتمت أمه حديثها، ثم قال: أتعرفين سمعة هذا التاجر، الذي تريدين أن يحل منك مكان أبي؟! أولم تسمعي ما يقوله الناس عن «شحاتة» هذا، وكيف كنز ماله وجمع ثروته؟ أما سمعتك فأمرها بيدك لا بيد الناس، وما كنت أحسبك تتزوجين بعد أبي، لأي سبب أو لأي اعتبار. وأنا لم أحضر اليوم لأناقشك، بل لأنهي إليك أنه إذا تم هذا الزواج فلن تري لي وجها ما حييت!
قال عبارته هذه في غضب، وانتفض واقفا وانصرف.
لكن السيف كان قد سبق العذل، فقد كان بعد الظهر من ذلك اليوم محددا لعقد الزواج، ولم يكن في مقدور رجاء أن تتراجع ومكان العقد بيتها، والسيد «شحاتة» سيحضر للموعد لا محالة. ثم إنها لم تجد لثورة عزيز عذرا يسوغها: إنها تريد الخير لنفسها ولأبنائها، وتريده حلالا طيبا، فإذا صح أن يغضب ولدها لذكرى أبيه، فمن الواجب عليه أن يقدر ظروفها وظروف إخوته، وأن يقدر ظروفه هو كذلك. فهو لم يتول بعد عملا يرزقه. وهبه تولى هذا العمل غدا، واستطاع أن يعيش منه عيشا متواضعا، فليس من حقه أن يفرض على أمه وعلى أخويه حرمانا لم يألفوه في حياة أبيه، أو أن يتهم أمه بعدم الوفاء لأبيه، لأنها أرادت أن تكفل لأبنائه العيش الكريم! •••
Shafi da ba'a sani ba