لا مفر من الالتجاء إليها في سر من الناس تخلصا من عار لا سبيل إلى التخلص منه إلا بها ... أو بالموت!
وفي الهزيع الأخير من الليل، دعت الأم زهرة، وجاءت بالرحى، ولا تكاد تحمل كل شق من شقيها من غير أن تنوء به. ثم وضعتها على بطن الفتاة، وأخذت تديرها والفتاة تتحمل ذلك، تكظم كل صيحة تتردد في صدرها، حتى انفرجت أحشاؤها عن الجنين ما يزال علقة. فلما رأت الأم دم ابنتها، والعلقة التي كادت تتكون إنسانا، رفعت رأسها إلى السماء، حمدا لله أن ستر على ابنتها، ثم أزاحت الرحى على الأرض، وأسندت زهرة حتى ذهبت إلى فراشها!
وتنفس الصبح وقد انزاحت الغمة عن صدرها، مؤمنة بأن أحدا من أهل القرية لم يقف على السر الرهيب، وأن بنتها عادت، وكأنها عذراء تهوي إليها القلوب.
وقضت زهرة أسبوعين في فراشها، ثم ردت إليها الحياة، وعاودتها كل نضارتها، وقد آمنت برحمة الله بها، وبأن ما صنعته بها أمها في إجهاضها - على قسوته ووحشيته - قد كان الشفقة كل الشفقة، بل كان أروع مثل لحنان الأم في أسمى مظاهره.
وأقامت هي، وأقامت أمها، تنتظران أن يتم الله رحمته بهما، فتخطب زهرة وتتزوج، ويصبح ما مضى من وزرها وخطيئتها نسيا منسيا.
وتعاقبت الشهور، ولم يظهر من يخطبها، هنالك عاودت الأم الوساوس، ثم فكرت آخر الأمر في قريب لها رقيق الحال، ولكنه طيب القلب، فأدنته منها، وأوحت إلى زهرة أن تظهر اللطف به، وأن تدفعه إلى أن يخطبها إلى أمها، فلما فعل اشترطت الأم أن يقيم معها في بيتها، فهي لا تسطيع البقاء به وحدها بعد أن تزوجت كل بناتها. وفرح الشاب بهذا الشرط، وأصبح زوجا لزهرة، وربا للبيت ومديرا لشئون الأسرة!
وأنجبت زهرة منه ثلاثة بنين في بضع سنوات، ثم اختاره الله إلى جواره، ووهبت زهرة نفسها بعده لعبادة ربها، ولتربية أبنائها. وقد زادها مقامها بالمدينة صدر شبابها دقة في العناية بأبنائها وحسن توجيهها لهم. فكان أبناؤها يتابعون دراساتهم ناجحين؛ دخل أكبرهم الجامعة في السادسة عشرة من سنه، ومال أصغرهم إلى السينما وشغل بها. وشعرت أمه بأن الخير في أن تقيم معهم بالعاصمة، فاقترحت على أمها أن تأجر أمينا يباشر شئونهم، وتباشر هي تصرفاته في أثناء الصيف، فإذا انتهوا من جمع الإيرادات، وبدأت السنة الدراسية، سافرت مع أولادها إلى مصر تراقبهم وتخدمهم!
وتابع أبناء زهرة دراستهم بنجاح، وحصلوا على مؤهلاتهم العليا، وانخرطوا في سلك الحياة، وفتح الله عليهم فيها.
وكان أصغرهم الذي اشتغل بالسينما أكثرهم من الناحية المادية حظا. فقد أصبح بعد سنين مديرا لإحدى شركات السينما الكبرى التي تدير منشآتها العديدة في القاهرة والإسكندرية.
وفيما هو يوما بالثغر، جاء إلى مكتبه رجل محطم، تبدو عليه آثار الفاقة، ولا تنم كهولته عن سن متقدمة، وطلب إليه في رجاء ملح أن يسند إليه عملا عنده يرزقه ويرزق أولاده. وأثار منظر هذا الشيخ المهدم شفقة الشاب المدير، وتمنى لو استطاع أن يجيبه إلى ما طلب، وإن تبين من حديثه أنه لم يزاول من قبل عملا يؤهله في الشركة لوظيفة ذات قيمة. وأشار عليه بأن يقدم طلبه، ليعرضه على مجلس الإدارة، وأن يمر عليه في الساعة العاشرة بعد أسبوعين من ذلك اليوم، فإن لم يجده بالمكتب وجده في استراحة المكتب، بالطابق الذي يعلو المكتب مباشرة.
Shafi da ba'a sani ba