وأجابت السيدة: «ليست وفاء بالطفلة الغريرة التي لا تعرف ما تريد، فإن هي وافقت على الزواج منك، لم يكن لوساوسك موضع، وأكبر ظني أن يسعد الله كلا منكما بصاحبه، وفارق السن بينكما لا يحول دون سعادتكما زوجين كريمين عزيزين. أما ولم تفكر أنت في الأمر من قبل، فإني أدعك الآن لأعود إليك بعد غد فأسمع كلمتك، وأرجو الله أن يكلل مسعاي بالنجاح!»
وغادرت السيدة فريدا وتركته لنفسه. وأخذ هو يفكر في هذا الأمر، الذي لم يفكر في مثله، منذ اختارت عزة جوار ربها، وحين عاهد جثمانها ساعة نزلت إلى قبرها أن يظل على عهده لها حتى يلقاها، ولم يمنعه هذا العهد من التفكير فيما حدثته السيدة عنه من أمر وفاء وخطبتها، وكأنما تنسي السنون العهود، إذا لم يذكر بها من قطعت لهم، حتى لا يبتلعها النسيان في لجته!
وفيما هو يفكر، ارتسمت وفاء أمام بصره وبصيرته، وداعب صوتها سمعه، وبدت وكلها الإغراء الذي لا يقاوم. فلما أرخى الليل سدوله، قضى فريد ليلة نابغية، ساورت غفواته في أثنائها أحلام مضطربة، كان يبدو خلالها أحيانا قبر عزة، ثم تبدو خلالها وفاء، في رقتها وإغرائها. وفي واحد من هذه الأحايين، اختلط عليه الأمر، فبدا لوهمه قبر عزة وقد نقشت عليه كلمة «وفاء». فلما أصبح وكان ذلك يوم جمعة، مر ببائع الأزهار فابتاع منه وردا وريحانا، ذهب بهما إلى المقابر، فوضعهما على قبر عزة، وقرأ الفاتحة عنده.
وفيما هو يتأهب للخروج، وكأنما يودع القبر الوداع الأخير، سمع القارئ يتلو:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا . عند ذلك ارتد إلى ناحية القبر وهو يقول: «صدق الله العظيم ... لقد عاهدتك يا عزة، ولن أنكث العهد، ولن أخونك من أجل وفاء!»
ومرت السيدة الغداة لتسمع جوابه عما اقترحت عليه، فقال لها: إن الرجل الجدير بأن يتزوج وفاء لم يخلق بعد!
وبعد الظهر من ذلك اليوم، ذهب فريد إلى دار وفاء، وقال لها: إني مسافر سفرا أخشى أن يطول، وقد جئت أستودعك الله، فوداعا!
وودعته وانصرف عنها، ومن يومئذ انقطع عن زيارتها!
تركت قصة فريد هذه مع وفاء أثرا أقنع الرجل بأن صحبة الناس وصحبة النساء خاصة لا تخلو من خطر، وأن الوحدة عبادة حقا. فاختار سكنا على حافة الصحراء به حديقة، واتخذ من الدواجن، ومن الحيوانات الصغيرة الأليفة أصدقاء عمروا هذه الحديقة، واستمتعوا بكل عواطفه ورعايته. واختار لخدمته وخدمة دواجنه وحيواناته طاهية متقدمة في السن، لها ابنة لم تبلغ العاشرة من سنها. وتوثقت الصلة بينه وبين هذه الدواجن والحيوانات الأليفة، واعتبر البنت واحدة منها، فأسبغ عليها من العطف ما كان يسبغه على زميلاتها العجماوات!
وانقضت سنوات أخرى وهو سعيد بوحدته وحيواناته، وإنه لفي منزله يوما، إذ نعى الناعي «وفاء» إليه، وأنها ستدفن بعد ظهر ذلك اليوم عذراء بتولا. وسار في جنازتها، فلما بلغ المقابر، وجد عند قبرها سيدة واحدة تودع المتوفاة الوداع الأخير، تلك هي السيدة التي خاطبته يوما في التزوج من وفاء، فلما ذهب نحوها يحمل إليها عزاءه، نظرت إليه في عتاب، وقالت: إن المرأة الجديرة بأن تتزوج فريدا لم تخلق بعد!
Shafi da ba'a sani ba