وانصرف الأب، وتزوج عباس زوجته الثانية بعد أيام، ولم تبطئ هذه الزوجة الجديدة أن حملت، وفي الأشهر من حملها، شاءت ثقة الرؤساء بعباس ندبه إلى بلد ناء ليعالج أمرا عجز غيره عن علاجه.
وخشيت الزوجة الجديدة على نفسها وعلى حملها أن تصحبه في سفره، فاصطحب هندا وقضيا في هذا الندب عدة أشهر. فلما عادا إلى منزلهما، كانت الزوجة الجديدة وشيكة الوضع، وكان أكبر ما يرجوه عباس أن تضع غلاما يعينه في شيخوخته ويرثه حين وفاته. فلما علمت هند أن ضرتها وضعت بنتا، رفعت كفيها إلى السماء، شكرا لله أن لم يبلغ خذلان القدر إياها مداه فيمتع عباسا من غيرها بما يحقق له أملا أبى القدر عليها هي أن تكون مصدره. •••
وبعد أشهر، حملت الزوجة الثانية مرة أخرى! ثم ذكرت لعباس أن البيت أصبح لا يتسع له ولها ولأبنائها ... ولهند معهم! فإما أن ينتقل بها، وإما أن ينتقل بهند، إلى بيت جديد. ولا يستطيع عباس أن يعتذر عن عدم إجابة طلبها بضيق ذات اليد، فهو اليوم في الدرجة الرابعة، وهو مرشح للدرجة الثالثة، وقد استطاع أن يشتري مما اقتصده بعض أفدنة زادت إيراده!
دعا إليه هندا، وأفضى إليها برغبة أم ولده، وقال لها: الرأي الآن لك، وأنت تقدرين أنني مطالب اليوم، وقد أصبحت أبا، بأن أقتصد احتياطا لمستقبل أولادي.
وبكت هند لما سمعت، ولم تحر جوابا، فاستطرد عباس يقول: أدعو أباك وأدع له الحكم بعد أن أشرح له موقفي، وسأنفذ حكمه على أية حال!
وجاء أبوها، وشرح له عباس ما تحتمه زوجه الجديدة، وأنه لا مفر من النزول على إرادتها، فنظر الرجل إلى ابنته مغضبا وقال لها: كيف ترضين هذا الحكم أيتها الحمقاء؟ إن بيت أبيك يسعك ويسع عشرات معك، وقد ترك عباس أمرك إليك، وهو لا يأبى أن يسرحك إن شئت، فما بقاؤك في بيت لم يبق لك مكان فيه؟!
وانخرطت الشابة في البكاء، وقالت وكأنها لا تعي ما تقول: كلا يا أبي، فنار عباس ولا جنة زوجتك!
واستشاط الأب غضبا حين سمع عبارتها، ورفع يده يريد أن يضربها، فحال عباس بينه وبينها، وخرج الأب الغاضب يلعن ابنته وقلة أدبها، وينسب ذلك إلى ما ورثته من أمها ويقسم إنه لن يرى من بعد وجهها!
وأشفق عباس على هذه المسكينة، التي ظلمها القدر، وظلمها أبوها، وأخذ يتلطف بها، ويطيب خاطرها، حتى هدأت ثائرتها. ثم قال لها: ماذا عليك أن تقيمي في بيت بعيد عن ضرتك وأن تنسي وجودها، إنني لن أنسى أنك كنت عتبة سعد لي، ولن أكون معك إلا على ما يرضيك.
وانتقلت هند إلى بيت آخر متواضع، وكان زوجها يمر بها بين الحين والحين، وكان انتظارها إياه يطول أحيانا، فتأخذ بخناقها الوساوس، وكان أشد ما يفزعها إشفاقها من أن تضع ضرتها ولدا يحقق رجاء أبيه، فلا يبقى لها مكان من نفسه، ولا مكان من بيته، فينتهي إلى تطليقها، وتضطر إلى الرجوع إلى بيت أبيها، والخضوع لتحكم زوجته فيها، وذلك عندها هو الجحيم والعذاب المقيم!
Shafi da ba'a sani ba