كان يظن أن شيئا واحدا ينقصه، ليصبح على قمة الدنيا جميعا، كان ينقصه حرب جديدة، يأتي فيها من الأعمال ما عجزت عنه «رومية» في سالف زمانها، بل ما عجز عنه هو بنفسه، في سابق أيامه، مغاز جديدة، وحروب طاحنة؛ ذلك ما كان يجول في صدر قيصر، حروب لا تذكر إلى جانبها حروب «رومية»، إلا لتظهر كأنها اللعب مقيسا على الجد، أو الصغائر مقيسة على العظائم، حروب يذكرها التاريخ وينسى ما عداها، هذا والزمان يرقبه، وأظفر الغدر يمتد إليه عن كثب، بعد أن ظل مطويا في قنابه
13
عهدا، كادت تنسى فيه «رومية» سيل الدماء.
كانت بلاد «فارس» مرمى نظر قيصر، كانت «فارس» تغشى خياله، وتزوده بتلك الأحلام الشهية؛ أحلام الشرق، وأحلام القيصرية الرومانية، كان نظره يمتد إلى «فارس»، مجال المخاطرات التي أمدت الإسكندر المقدوني بالمجد الخالد والعز التالد، صحاراها المترامية الأطراف، ونجودها العالية، وسهولها الخصيبة، وجمالها الشرقي، ومدائنها العامرة، وأنهارها الجارية، ووديانها الفاتنة التي يغذيها الفرات، ويمنحها دجلة البهاء والإشراق، حدائقها المعلقة، وبروجها المشمخرة، وقصورها المرمرية، ومعابدها القائمة على تلك العمدان التي أقيمت رمزا للعزة، وعنوانا على الخلود: بسطها التي تشارك الدهر، وورودها الجميلة، وخزفها المتقن الصناعة، كل مفاتن تلك القيصرية العظيمة، كانت قد اختلبت لب قيصر، حتى لم يخل في قلب «قيصر» مكان لغير «فارس».
أية فتنة في «فارس»! وأي ظلام واربداد في بلاد «الغال»! أي إشراق وجمال في «فارس»! وأي حزن واكدرار في بلاد «بريطانيا»! أما إذا سنح له أن تلمع نسوره الرومانية تحت شمس «فارس»، فلا المجد، ولا العظمة، ولا الخلود بكافيته مطمعا في الحياة، أيجوس خلال الديار التي كانت من قبل مجاس المقدوني الأعظم، ويستولي على تلك الثروات التي تعجز الدنيا كلها عن أن تجمعها في مكان، غير «فارس» القديمة؟
وكانت «كليوبطرا» أكثر من «قيصر» تحمسا لتلك الحروب، فكانت تذكي خياله بالمطامع، وتشعل في نفسه حب العظمة الدنيوية، ومرماها أن تفوز من «قيصر» بكل ما يحوز من ثمار النصر، فتسخر «رومية» في شخص قيصر، لتنال في النهاية غرضها الأخير، وما غرضها إلا أن تقف على هام الدنيا، وتسخر من الأقدار.
لم تأبه «كليوبطرا» بما كان يحوم حولها من مظان الحسد والكراهية، ولم تلن قناتها نظرات المقت التي كانت تنبعث من عيون أهل «رومية»، ولكنها كانت تعتقد اعتقاد أهل العقول الرشيدة، أن ما من شيء يلين قناة الأرسطوقراطية الرومانية، بقدر ما تلينها قوة «قيصر»، فمن أجل أن تركز القوة في شخص «قيصر»، كان لا بد لها من أن تعمل على تثبيتها في أنحاء العالم كله، من أقصى الشرق إلى حدود مملكتها العظيمة، حتى تصغر «رومية» في جانب الدنيا، وتصغر الدنيا في جانب «قيصر»، بذلك تكبح جماح الرومان، وتحملهم على الرضا ببقائها تحت كنف قيصر، ما دام قيصر تحت كنفها، وبذلك تخلص كليوبطرا من الدنيا بالدنيا، وتفوز من العالم بالعالم.
كانت تريد أن تقيم ذلك الصرح من رءوس الأمم التي يطيح بها سيف «قيصر» في الشرق والغرب، حتى إذا كمل بناؤه، وشيدت أركانه، وقفت من فوق قمته العليا تنظر إلى الدنيا في قبضتها الناعمة، ممسكة ببنانها الرخص على أعنتها.
قد نتساءل: لم كل هذا؟ ولو أنك سألت «كليوبطرا» هذا السؤال، إذن لعجزت عن أن تجيب لماذا؟
وعلى الرغم من أنه كان يصعب على «كليوبطرا» أن تبارح ذلك القصر الذي كان يوحي إلى العالم كله بأن «كليوبطرا» سيدة العالم الروماني، فإن رجوعها إلى مصر كان أشد عليها صعوبة، أترجع إلى مصر بغير «قيصر»، لتعاشر أولئك الذين ما حدثوها مرة إلا بحديث الثورات، وما إلى الثورات من أحاديث؟ كلا إن ذلك مما لا يتفق وعقلية «كليوبطرا»، إنما يتفق وعقليتها أن ترافق «قيصر» إلى أقصى الشرق؛ تشاركه المشاق، وتشجعه على القتل والتخريب، فأخذت تعد العدة، وتجهز جهاز السفر الطويل. •••
Shafi da ba'a sani ba