أتعرف من كان ذلك الشاب؟ هو بعينه «مرك أنطونيوس».
بالرغم من أن «أنطونيوس» كان واقعا في شباك الخليعة الرومانية «فوثيرس» فإن جمال كليوبطرا قد أخذه بالناصية، وحل من قلبه في الصميم، ولولا ما كان من احترامه لقيصر، وتقديسه له، إذن لبثها الهوى، وشكى إليها الغرام.
على أن «أنطونيوس» لم يقو فيما بعد أن يقصي عن مخيلته ذكريات اللقاء الأول، تلك العظمة الفاتنة التي شملت الملكة الصغيرة، وتعابير السلطة والقوة التي انبعثت من عينيها، وقد مدت إليه يدها الناعمة ليقبلها، ناهيك بلباسها المنسجم، المنسق على أخص ما يسمو إليه الفن والذوق من دقة وإحكام، أما نبرات صوتها فقد وقعت في قلب «أنطونيوس» وقع نصل مسنون رهيف، هده هدا، ودكه دكا. •••
مهما يكن في أمر ذلك الإعجاب الذي حوط به الرومانيون «أسپاسيا»
Aspasia
الجديدة، وهي بين جدران قصرها الذي أصبح لهم بمثابة منسك للفن، ومعبد للجمال، ومهبط لوحي الأدب؛ فإن بعضا من الذئاب المفترسة، والنمور الجارحة، كانت تحدجها بالنظرات، مكشرة عن أنياب زرق، لعابها سم زعاف.
هم رومانيون قدسوا الفضائل، أو هم ادعوا أنهم يقدسونها، أخذتهم العزة الرومانية، فراحوا ينقمون على قيصر، قائدهم وحاكمهم المطلق، تبذله مع الغانية الغريبة، التي لم يشرف دمها بأن يكون فيه من الدم الروماني إثارة، تشفع لها عندهم بأن تكون لرجلهم خليلة أو زوجة، ولقد انضم إليهم كل نساء رومية النابهات، وكان أكثرهن قد لقين من أزواجهن بعض الجفوة، أو آنسن منهم نظرات احتقار، أو لفتات سخرية، بعد أن عرفوا كليوبطرا عن كثب، وقايسوا بين أنوثتها وأنوثتهن، في زمن اتقدت فيه الشهوات، والتهبت العواطف، وتسلط فيه نداء الجنس، فهزم الفضائل، وهد ركن الآداب؛ فانحزن مأخوذات بعواطفهن، مسوقات بمشاعرهن، إلى ذلك الحزب، تحدوهن الغيرة، وتدفعهن الحفيظة، إلى تحطيم تلك الساحرة الشرقية، التي أصبح قصرها مباءة لرجالهن، بل أصبح لرومية جميعا، بمثابة البيضة والعش، والسكن والوطن والسكون. •••
هنالك كان لكليوبطرا أعداء، أشد من هؤلاء نكاية، وأصح على الانتقام عزيمة؛ أعداء أثبت من هؤلاء قلوبا، وأحر نفوسا، هنالك كان أعداؤها السياسيون، سياسيون ذوو عقيدة في قداسة التقاليد الرومانية؛ محافظون: يرون في ما بثت كليوبطرا من روح في رومية هدما لتقاليدهم، وذهابا لطرائقهم، وتطويحا لأنماطهم الموروثة، وكان قد هبت على رومية ريح الاعتقاد بأن قيصر إنما يرمي، بعد الاستئثار بالسلطة، إلى الاستئثار بتاج روماني، يبدد الجمهورية، التي هي بنظاماتها المعروفة، موئل الديمقراطية، ومباءة الحرية، وبالرغم من مظاهر العظمة والجلال التي حاول قيصر أن يحوط بها نفسه، وبالرغم من مرائي التحكم التي ظهرت في أعماله، واتصفت بها سياسته، فإن اللوم كل اللوم، إنما انصب على فاتنته الملكية.
أظهر قيصر بمظهر المارق عن حكم التقاليد، المستهتر بحق الآداب، المرتد عن منقول السلف الروماني؟ هل اعتدى قيصر على القوانين، وافترى على الشرائع؟ هل امتهن قيصر مخلفات رومية المقدسة، واحتقر كل ما أجل الرومان من موروث الأقدمين؟ نعم، فعل قيصر كل هذا! ولكن اللوم على المصرية الملعونة التي زينت له الفسوق والارتداد، وهونت عليه أمر رومية، والرومان أجمعين.
ومهما يكن من أثر الملكة المصرية في ما بدى على أفعال قيصر من فسوق عن تقاليد قومه، فإن مر الأيام قد أثبت لأهل رومية، أن قيصر إنما ينأى شيئا بعد شيء، عن أوضاع الجمهورية.
Shafi da ba'a sani ba