وإن بنتا من بنات حواء، لها مواهب كليوبطرا السامية، وفيها عبقريتها الأخاذة في استخدام مواهبها النسوية ذريعة إلى تحقيق أحلامها، لن تتصور موقفا أكثر مواءمة من موقفها في قلب رومية، وبين ذراعيها قيصر، وفي حضنها قيصرون، ولده الأوحد.
بيد أن رومية، عندما هبطتها كليوبطرا، لم تعد بعد ذلك المعقل الحصين الذي تحتمي فيه التقاليد، وتقدس فيه الشرائع القديمة، فإن تلك التقاليد التي قامت عليها عظمة الجمهورية الرومانية، ومنها استمد الرومان تلك القوى التي هزت الدنيا بأسرها، كانت قد أخذت في الزوال والفناء، فإن الدين القديم كان في طور انحلال، وبالرغم من أن الدين كان معترفا به في الدولة، فإن الملاحدة كانوا كثيرين؛ وبخاصة بين الأرستقراطيين، وكذلك الشعب؛ فإنه إن أظهر بعض الخوف من آلهته، وأبدى لهم بعض الاحترام، فإن هذا لم يصد روماني ذلك العصر عن أن يفسقوا عن شرائع آلهتهم، ومن تحطيم هياكلهم أو تدنيسها، إذا ما ملكتهم سورة غضب، أو هبوا ثائرين، وكفى بقصة ذلك الجندي المستهتر دليلا، فإنه مضى يفاخر بأنه سرق تمثال الآلهة «ديانا»
Diana
وأنه اجتنى بسرقته ثروة، من غير أن يرى في ذلك استخفافا بآلهة ولا دين، ومن غير أن يرى الشعب الروماني في ذلك تدنيسا لحرماته.
أما تقديس الزوجية، فقد أصبح تقليدا من تقاليد الماضي العتيقة، فكنت ترى كل يوم وتسمع في كل آونة، أن عضوا من «السناتو»، أو «قنصلا»، أو موظفا كبيرا، أو شيخا مبجلا، أو سيدا محترما، قد سرح زوجه بالطلاق الأبدي لأتفه سبب، أو بدعوى لا دليل عليها، ولقد امتدت الاستهانة بهذه التقاليد حتى إن «قيقرون» الخطيب المشهور، بالرغم مما عرف عنه من رضي الأخلاق وسماحة النفس، طلق زوجه «ترنتيا»، بعد أن عاشرها ثلاثين سنة، وشيعها بكلمات قاسية قائلا: «اذهبي من هنا، واحملي معك كل ما هو ملك لك.» ذلك بأنه رغب في أن تحل محلها فتاة أصغر منها سنا، وأكثر جمالا.
لقد أصبحت الاستهانة بالأخلاق والعرف والشرائع، تلك الأصول التي سيطرت على النظام الروماني من قبل، طابع عصر قيصر في رومية، بل أضحت السرطان المزمن الذي تشعبت عقده وجذوره في صميم المجتمع الروماني، ولقد ذاعت الفضائح الجسيمة والمنكرات الضخام، ذلك بأن الثروة التي حصلت عليها رومية، إثر المغازي الكبيرة والحروب الموفقة التي قاد قيصر جحافلها، كانت قد أبعدت الرومان عن فكرة الحياة البسيطة التي عكف عليها آباؤهم من قبل، وأبطرتهم النعمة، فراحوا ينغمسون في الترف، وينتهبون الملذات، وعلى الجملة أصبح الذهب معبود رومية الأوحد ، وإلهها القاهر القادر على كل شيء، سبحانه وله الحمد.
كان الذهب في رومية، قبل ذلك العهد، من الأشياء النادرة، فلا تراه إلا في المعابد تزين به بعض أجزائها، أما في عصر قيصر، فقد دخل المقاصير الخاصة، والأبهاء العامة، وزين به الفراش والأثاث، ونقشت به الأسقف والجدران؛ وإن شئت فقل: إن كل شيء في بيوت أهل رومية، من الطبقات العليا، كان يرهقه الذهب، ويحليه التبر الخالص.
ولقد أراد «كاتو»
Cato
وهو من أعظم رجالهم، أن يحتج على ما انغمس فيه قومه من ترف، وما تطوح فيه المترفون من مفاسد، فمشى في أسواق رومية عاري القدمين، وعليه شملة ممزقة، ولكن من ذا الذي يتبع «كاتو» في عالم الذهب معبوده، والفسق شريعته؟ ولقد استهزئ به، واستضحك منه، وهو يمشي على تلك الهيئة الغريبة، إلى جانب العجلات المموهة بالذهب، تجرها خيل مطهمة جياد، من أجل ما أنتج الشرق من سلالات: أصيلة ومولدة.
Shafi da ba'a sani ba