قالت عائشة برقة: لا أذكر أن نينة انتهرت أحدا منا فضلا عن ضربه، ألا تذكرين؟
فقالت خديجة كالآسفة: لم تلجأ نينة إلى الشدة، لأن بابا كان هناك. كان ذكره كافيا لإلزام كل حده. أما عندي، أو عندك فالحال من بعضه؛ فالأب غير موجود إلا بالاسم (اضطرت وهي تبدي الملاحظة الأخيرة أن تضحك) ما عسى أن أفعل والحال كذلك؟ إذا كان الأب أما، فعلى الأم أن تكون أبا!
ياسين مبتهجا: يقيني أنك نجحت في أبوتك! أنت أب ... هذا ما شعرت به طويلا، ولكن كانت تنقصني معرفته.
فتظاهرت بالرضا قائلة: أشكرك يا بمبة كشر! «خديجة وعائشة، صورتان متعارضتان ... تأمل جيدا، أيهما تظن الأجدر بأن تكون معبودتك على مثالها؟ أستغفر الله! معبودتي على غير مثال، لا أتصورها ربة بيت، ما أبعد هذا عن التصور! معبودته في ثياب البنت تنهنه طفلا أو ترعى مطبخا؟ يا للفزع ويا للتقزز! بل لاهية أو سادرة أو رافلة في حلة باهرة في حديقة أو سيارة أو ملهى، ملاك في زيارة طارئة سعيدة للدنيا، جنس مفرد غير سائر الأجناس لا يعرفه إلا قلبي، لا يجمعها وهؤلاء النسوة إلا تسمية العاجز عن معرفة الاسم الحقيقي، لا يجمع جمالها وجمال عائشة وسائر ألوان الجمال إلا تسمية العاجز عن معرفة الاسم الحقيقي، هاك حياتي أكرسها لمعرفتك، هل ثمة وراء ذلك ظمأ لعرفان؟» - يا ترى ما أخبار مريم؟
تساءلت عائشة حال خطرت صديقتها القديمة ببالها، فأحدث الاسم آثارا متباينة في كثير من الجالسين، تغير وجه أمينة حتى نمت أساريره عن الامتعاض الشديد، تجاهل ياسين السؤال كأنه لم يسمعه متشاغلا بتفحص أظافره، وردت رأس كمال جملة من ذكريات هزت نفسه هزا. أما خديجة فأجابتها بلهجة باردة: أي أخبار جديدة تتوقعين؟ طلقت وعادت إلى بيتها!
انتبهت عائشة - بعد فوات الفرصة - إلى أنها انزلقت سهوا إلى ورطة، وأنها أساءت إلى أمها بهفوة لسان. ذلك أن أمها آمنت منذ عهد بعيد بأن مريم وأم مريم لم تصدقا في حزنهما على فهمي، إن لم تكونا شمتتا بهم من أجل ذلك، لما سبق من معارضة السيد في خطبة مريم للفقيد. وكانت خديجة البادئة بترديد ذلك الظن، فتابعتها الأم عليه بلا تردد أو تفكير، وسرعان ما تغيرت عواطفهما نحو جارتهما القديمة حتى أوحى ذلك بالتنكر فالقطيعة.
قالت عائشة بارتباك، محاولة الاعتذار عما بدر منها: لا أدري ماذا دعاني للسؤال عنها؟
فقالت أمينة بانفعال ظاهر: ما ينبغي لك أن تفكري فيها.
كانت عائشة قد أعلنت شكها - عند ذلك التاريخ - في واقعية التهمة التي ألصقت بصديقتها، معتلة بأن الخطبة وما دار حولها بقي طي الكتمان، فلم يتناه نبؤه إلى بيت مريم في حينه، مما ينفي عن الفتاة وآلها دواعي الشماتة ... ولكن أمها لم تر رأيها محتجة بأن مسألة خطيرة كهذه المسألة مما يتعذر منع تسرب خبرها إلى أصحاب الشأن فيها، فلم تلبث عائشة وراء رأيها طويلا خشية أن تتهم بمحاباة مريم، أو بفتور حماسها لذكرى شقيقها. لكنها بإزاء انفعال أمها. وجدت نفسها مساقة إلى تلطيف وقع هفوتها، فقالت: لا يدري بالحقيقة يا نينة إلا الله ... لعلها بريئة مما رميناها به.
فاشتد امتعاض أمينة على خلاف ما توقعت عائشة، حتى لاحت في وجهها بوادر غضب بدت غريبة عنها لما عرف عنها من حلم وهدوء. وقالت بصوت متهدج: لا تحدثيني عن مريم يا عائشة.
Shafi da ba'a sani ba