وعند انصرافه من الدكان أتبعه عينين مليئتين بالرثاء والازدراء، لم يكن بوسعه إلا أن يعجب بمظهره الذي ورثه عنه، أما مخبره الذي ورثه عن أمه! وذكر بغتة كيف أوشك هو يوما أن يتردى في الهاوية على يد زنوبة نفسها! ولكنه ذكر في الوقت نفسه كيف شكم نفسه في اللحظة المناسبة. شكم نفسه؟ وشعر بامتعاض وقلق. فلعن ياسين، ثم لعن ياسين!
40
جاء يوم 20 ديسمبر فشعر بأنه يوم لا كبقية الأيام، على الأقل بالقياس إليه هو؛ ففي ساعة منه وجد نفسه في هذه الدنيا، وسجل ذلك في شهادة حتى لا يمكث أكثر أو أقل مما تم الاتفاق عليه ... وكان يرتدي معطفه ويقطع حجرته ذهابا وجيئة، ثم يلقي نظرة على مكتبه فيرى كشكول الذكريات مفتوحا على صفحة بيضاء رقم أعلاها بتاريخ الميلاد، فيفكر فيما يريد أن يكتبه لمناسبة الذكرى، ويواصل حركته مستمدا منها شيئا من الدفء يستعين به على مقاومة البرودة القارسة. وكانت السماء - كما تبدو من زجاج النافذة - متوارية وراء سحاب متجهم، والمطر ينزل قليلا، ويسكت قليلا محركا في نفسه بواعث التأمل والحلم. لا بد من الاحتفال بالميلاد ولو اقتصر الحفل على صاحب الميلاد وحده، ذلك أن البيت القديم لم يعرف تقاليد الاحتفال بأعياد الميلاد، وأمه نفسها لم تدر أن اليوم من الأيام التي لا ينبغي أن تنساها، فلم يبق من تواريخ الميلاد نفسها إلا ذكريات غامضة عن الفصول التي وقعت فيها، والآلام التي صاحبتها، فهي لا تعرف عن ميلاده إلا أنه: «كان في الشتاء، وكانت الولادة عسيرة فجعلت أتوجع وأصرخ يومين متتابعين.» قديما كان يذكر أنباء ميلاده فيملأ الرثاء لأمه قلبه، ثم تضاعف شعوره بالرثاء عندما شاهد ميلاد نعيمة فخفق قلبه ألما لعائشة، أما اليوم فإنه يفكر في ميلاده بعقل جديد، عقل قد عل من منهل الفلسفة المادية حتى ألم في شهرين بما تمخض عنه تفكير الإنسانية في قرن من الزمان. تساءل عن عسر ولادته، وهل يرجع بعضه أو كله إلى الإهمال أو الجهل، وكان يتساءل وكأنما يستجوب متهما قائما بين يديه. فكر في عسر الولادة وما عسى أن ينجم عنه من آثار تلحق بالمخ أو الجهاز العصبي فتلعب دورا خطيرا في حياة الوليد ومصيره، وما قد يساق إليه من خير أو شر. ألا يمكن أن يكون تهالكه في الحب نتيجة لصدمات أصابت يافوخه أو جدار رأسه الكبير في غيابات الرحم منذ تسعة عشر عاما؟ أو أن تكون تلك المثالية التي أضلته طويلا في مجاهل الخيال، وأسالت منه الدمع مدرارا فوق مذبح العذاب ما هي إلا عاقبة محزنة لعبث داية جاهلة؟ وفكر فيما قبل الولادة، بل فيما قبل الحبل، في المجهول الذي تنبثق منه الحياة، في تلك المعادلة الكيميائية الآلية التي تستوي كائنا حيا فيثور أول ما يثور على أصله مزدريا، ويتطلع إلى النجوم مدعيا له نسبا في مداراتها. بيد أنه قد عرف له بداية قريبة دعاها بالنطفة، فهو على ذلك لم يكن قبل تسعة عشر عاما وتسعة أشهر إلا نطفة، نطفة قذفت بها رغبة بريئة في اللذة، أو حاجة ملحة إلى العزاء، أو صولة هياج بعثتها سكرة غاب فيها الرشاد، أو حتى مجرد إحساس بالواجب نحو الزوجة القابعة في البيت. فابن أي حال من تلك الأحوال كان؟ لعله جاء إلى هذه الدنيا نتيجة الواجب. فإن الشعور بالواجب لا يزايله، وحتى اللذات لم يقبل على ممارستها إلا بعد أن تمثلت له فلسفة تتبع ورأيا يعتنق. إلى أنه لم يخل من الصراع والألم، ولم يأخذ الحياة أخذا سهلا، ومن النطفة مرق حيوان فالتقى ببويضة في البوق وثقبها، ثم انزلقا إلى الرحم معا، فتحولا إلى علقة، فكسيت العلقة لحما وعظما، ثم خرجت إلى النور والألم بين يديها يسير، ثم بكت قبل أن تستبين معالمها، ومضت الغرائز المودعة بها تنمو وتتبلور مستجدة على مر الأيام عقائد وآراء حتى أتخمت، وعشقت عشقا زعمت لنفسها به نوعا من الألوهية، ثم زلزلت فتهاوت عقائدها، وانقلبت أفكارها، وخاب قلبها، فردت إلى مكانة أذل من التي جاءت منها أول مرة! إذن قد مضى من العمر تسعة عشر عاما، يا له من عهد طويل! ويا للشباب الذي ينطوي بسرعة البرق! هل من عزاء إلا أن تتملى الحياة ساعة فساعة، بل دقيقة فدقيقة قبل أن ينعق غراب الغروب؟ مضى عهد البراءة، ولحق به العهد الذي كانت تؤرخ فيه الحياة بالحب - ق.ح، ب.ح - اليوم الأشواق كثيرة إلا أن المحبوب مجهول الكنه، فلم يجد على محبه إلا ببعض أسمائه الحسنى؛ فهو الحقيقة، ومسرة الحياة، ونور العلم، والسفر فيما يبدو طويل. وكأن المحب قد استقل قطار أوجست كونت فمر بمحطة اللاهوتية التي كان شعارها «نعم يا أماه»، وها هو يطوي الأرض في إقليم الميتافيزيقية التي شعارها «كلا يا أماه»، وعن بعد تتراءى خلال المنظار المكبر «الواقعية»، وعلى قمتها سجل شعارها «فتح عينيك وكن شجاعا».
وتوقف عن السير أمام المكتب فثبتت عيناه على كشكول الذكريات، وتساءل: أيجلس ليسود صفحة الميلاد كيفما يوحي القلم، أم يؤجل ذلك حتى تتبلور الأفكار في رأسه؟ وعند ذاك طرق أذنيه وقع المطر على الجدران كالدندنة، فاتجه بصره إلى زجاج النافذة المطلة على بين القصرين فرأى لآلئ عالقة برقعته المموهة برطوبة الجو، وما لبثت لؤلؤة أن انسابت إلى حافة الإطار السفلي راسمة على الرقعة المموهة خطا ناصعا منعطفا كالشهاب فمضى إلى النافذة، ورفع عينيه يتابع الأمطار المنهلة من السحب المترعة، وقد وصلت السماء بالأرض بأسلاك لؤلؤية، على حين لاحت المآذن والقباب غير عابئة بالمطر، وقد بدا الأفق وراءها إطارا من فضة، واكتنف المنظر كله لون أبيض مشرب بسمرة ساجية يقطر جلالا وأحلاما. وترامت من الطريق صيحات أطفال، فألقى نظرة إلى تحت ليرى الأرض تسيل بالمياه والأركان تعج بالوحل، وقد تعثرت العربات، وتطاير الرشاش من عجلاتها وخلت معارض الدكاكين من السلع، ولاذ المارة بالحوانيت والمقاهي وما تحت الشرفات.
هذا منظر السماء يخاطب الوجدان بلسان الوجد، فما أجدره أن يستلهمه طويلا ليتأمل موقفه من الحياة في مطلع عامه الجديد. لم يعد يجد رفيقا يحاوره بمكنون روحه مذ غادر حسين شداد أرض الوطن، فلم تبق له إلا نفسه ليحاورها إذا استشعر حاجة إلى الحوار، فاتخذ من روحه صديقا بعد أن فارقه صديق الروح. وسأل روحه: هل تؤمن بوجود الله؟ فسألته بدورها: لماذا لا تحاول أن تثب من نجم إلى نجم، ومن كوكب إلى كوكب كما تثب من درجة إلى درجة فوق السلم؟ وعن الصفوة المختارة من أبناء السماء؛ فقد رفعوا الأرض إلى مركز الكون، وجعلوا الملائكة تسجد للطين حتى جاء أخوهم كوبر نيكوس فأنزل الأرض بحيث أنزلها الكون جارية صغيرة للشمس، ثم تلاه أخوه داروين فهتك سر الأمير الزائف، وأعلن على الملأ أن أباه الحقيقي هو حبيس قفصه الذي يدعو الأصدقاء للتفرج عليه في الأعياد والمواسم، وفي الأصل كان السديم فتناثرت منه النجوم كالرشاش المتطاير من عجلة الدراجة، وتجاذبت النجوم في لهوها الأزلي فأنجبت الكواكب، وانطلقت الأرض كرة سائلة، والقمر في أثرها يعابثها وهي تقطب له بجانب من وجهها، وتبسم له بجانب آخر، حتى فتر حماسها فاستقرت سماتها جبالا، ونجودا، وقيعانا، وصخورا، ثم حياة تدب، وجاء ابن الأرض يزحف على أربع، ويسائل من يصادفه عن المثل الأعلى. لا أخفي عنك أني ضقت بالأساطير ذرعا، غير أني في خضم الموج العاتي عثرت على صخرة مثلثة الأضلاع سأدعوها من الآن فصاعدا صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى. ولا تقل: إن الفلسفة كالدين أسطورية المزاج، فالحق أنها تقوم على دعائم ثابتة من العلوم، وتتجه بها إلى غايتها. أما الفن فمتعة سامية، وامتداد للحياة، غير أن مطمعي أبعد من الفن مثالا؛ لأنه لا يرتوي إلا بالحقيقة، والفن بالقياس إلى الحقيقة يبدو فنا أنثويا. وفي سبيل هذه الغاية تراني مستعدا للتضحية بكل شيء إلا ما يمسك علي الحياة. أما عن مؤهلاتي للدور الخطير فرأس كبير، وأنف ضخم، وحب خائب، وأمل في المرض. واحذر أن تسخر من أحلام الشباب، فما السخرية منها إلا عارض من أعراض مرض الشيخوخة يدعوه المرضى بالحكمة. وليس من تناقض في أن تعجب بسعد زغلول كما تعجب بكوبر نيكوس واستولد وماخ؛ فالجهاد في سبيل ربط مصر المتأخرة بركب الإنسانية عمل نبيل وإنساني كذلك، والوطنية فضيلة ما لم تتلوث بالكراهية العدوانية، غير أن كره إنجلترا نوع من الدفاع عن النفس، وليست الوطنية على ذاك إلا إنسانية محلية، وتسألني: هل أومن بالحب؟ فأجيب: بأن الحب لم يبرح فؤادي بعد، فلا يسعني إلا أن أقر بحقيقة الإنسانية، ومع أن جذوره كانت مشتبكة بجذور الدين والأساطير، فإن تقوض المعابد المقدسة لم يزعزع أركانه، أو يقلل من خطورة شأنه اقتحام محرابه بالدراسة والتحليل، وفرز عناصره البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، فكل أولئك لم يوهن من خفقة القلب إذا هفت ذكرى أو تخايلت صورة، ألا زلت تؤمن بخلود الحب؟ ليس الخلود أسطورة، فلعل الحب ينسى ككل شيء في هذه الدنيا، وقد انقضى على زواج ... عايدة - لم تتردد قبل التفوه باسمها؟ - عام، فقطعت شوطا في طريق النسيان، مررت بطور الجنون، فطور الذهول، فطور الألم الحاد، ثم طور الألم المتقطع، الآن قد يمضي يوم بأكمله فلا تخطر لي على بال إلا حين الاستيقاظ، وحين النوم، ومرة أو مرتين في أثناء النهار، ويتفاوت تأثري بالتذكر ما بين حنين ينبعث معتدلا، أو حزن يمر مرور السحاب، أو حسرة تلسع ولا تحرق، إلا تثور النفس بغتة كالبركان فتدور بي الأرض، وعلى أي حال غدوت أومن بأنني سأواصل الحياة بلا عايدة. علام تعول في طلب النسيان؟ ... على دراسة الحب وتحليله كما سلف، والتهوين من الآلام الفردية بالتأملات الكونية التي يبدو عالم الإنسان في مداراتها هباءة تافهة، والترويح عن النفس بالشراب والجنس. والتماس العزاء عند فلاسفة العزاء كإسبينوزا الذي يرى الزمن شيئا غير حقيقي، وبالتالي فالانفعالات المرتبطة بحادث في الماضي أو المستقبل مضادة للعقل، ونحن خليقون بالتغلب عليها إذا كونا عنها فكرة واضحة متميزة. أسرك أن وجدت الحب ينسى؟ سرني لأنه يعدني بالنجاة من الأسر، وأحزنني بما كان تجربة خبرت بها الموت قبل حضوره، ومهما يكن من أمر فسأمقت ما حييت الأسر، وأعشق الحرية المطلقة.
سعيد من لا يفكر في الانتحار أو يتمنى الموت، سعيد من تتوهج في قلبه شعلة الحماس، وخالد من يعمل أو يتهيأ صادقا للعمل، حي من يتأثر الخيام بكتاب وكأس ومعشوق، والقلب اللهج بالآمال ينسى أو يتناسى الزواج كالكأس المترعة بالويسكي لا تتسع للصودا، وحسبك أن غرامك بالشراب يسير سيرا حسنا، وأن إقبالك على المرأة لا تعترضه عقبات من تقزز أو نفور، أما حنينك من حين لآخر إلى الطهر والتقشف فلعله بقية من تدينك القديم.
ولم ينقطع المطر عن الانهلال لحظة، وقعقع الرعد، ولمع البرق، وأقفر الطريق، وسكت الصياح، وخطر له أن يلقي نظرة على فناء الدار فغادر الحجرة إلى الصالة، ثم إلى النافذة، ونظر من خلال خصاصها فرأى المياه تجرف سطح الأرض اللين فتخدده، ثم تتدفق صوب البئر القديمة، وفاض عنها جانب فتجمع في نقرة بين حجرة الفرن والمخزن، هذه النقرة التي ينجم فيها غب الجفاف - مما يتساقط عفوا من حنطة أو شعير أو حلبة من يدي أم حنفي - نبت يكسوها حلة سندسية فيترعرع أياما حتى تدوسه الأقدام. وقد كانت على عهد دولة الطفولة حقل تجاربه ومراح أحلامه، ومن ينبوع ذكرياتها يمتلئ قلبه الآن شوقا وحنينا، ومسرة يغشاها حزن وإن كسحابة شفافة تغشى وجه القمر. وتحول عن النافذة ليعود إلى حجرته فانتبه إلى وجود من كان بالصالة، إلى الذكرى الباقية من مجلس القهوة القديم، إلى أمه متربعة على الكنبة باسطة ذراعيها فوق المجمرة، ولا جليس لها إلا أم حنفي، وقد تربعت على فروة قبالتها، فذكر المجلس القديم في أيامه الزاهرة، وما أودعه من جميل الذكريات، وكانت المجمرة هي الأثر الوحيد فيه الذي لم يكد يطرأ عليه تغير ينكره الرائي.
41
كان أحمد عبد الجواد يسير الهوينى على شاطئ النيل في طريقه إلى عوامة محمد عفت. وكان الليل ساجيا، والسماء صافية متألقة النجوم، والهواء مائلا للبرودة، فلما انتهى إلى هدفه وهم بالميل إليه لم ينس - بحكم العادة وحدها - أن يرمي ببصره بعيدا إلى حيث تقوم العوامة التي دعاها يوما: «عوامة زنوبة». كان قد انتهى على الذكريات الأليمة عام، فلم يعد يبقى في قلبه إلا الامتعاض والخجل. وكان من آثارها المتخلفة أن هجر مجالس النساء كما فعل عقب مصرع فهمي، فثابر على ذلك عاما حتى ضجر، فرجع عن عزمه وعاد ساعيا على قدميه إلى المجلس المحرم. وما هي إلا دقيقة حتى أقبل على المجلس فطالع المجموعة المحبوبة المؤلفة من أصدقائه الثلاثة والمرأتين، أما الأصدقاء فكان آخر لقاء بينه وبينهم ليلة أمس، وأما المرأتان فلم تقع عليهما عيناه منذ نحو عام ونصف أو - على وجه التحديد - منذ تلك الليلة التي أقحم فيها زنوبة في حياته. ولم يكن شيء قد بدأ بعد، فالقوارير لم تفض، والنظام لم يمس، وكانت جليلة محتلة كنبة الصدارة، تعبث بأساورها الذهبية وكأنما تنصت إلى وسوستها، على حين قامت زبيدة تحت المصباح المتدلي من السقف تنظر في مرآة صغيرة بيدها، متفحصة زينتها، جاعلة ظهرها إلى المائدة الحافلة بقوارير الويسكي وصحاف المزة. وتفرق الأصدقاء حاسري الرءوس، وقد خلعوا جبابهم، فصافحهم أحمد عبد الجواد، ثم صافح المرأتين بحرارة، فرحبت به جليلة قائلة: «أهلا بأخي الحبيب.» أما زبيدة فقالت له باسمة في عتاب: «أهلا بالذي لولا الأدب ما استحق منا السلام.» ونزع الرجل جبته وطربوشه، ثم ألقى نظرة على الأماكن الخالية - وكانت زبيدة قد جلست إلى جانب جليلة - وتردد قليلا قبل أن يمضي إلى كنبة المرأتين ويتخذ مجلسه عليها. ولم يغب تردده عن عين علي عبد الرحيم، فقال: هكذا تبدو كأنك تلميذ مبتدئ!
فقالت جليلة كأنما تشجعه: لا شأن لك به، فلا حجاب بيننا وبينه.
Shafi da ba'a sani ba