200

Fadar Sha'awa

قصر الشوق

Nau'ikan

وضج ثلاثتهم بالضحك، وعند ذاك دبت في مرمى البصر منهم ضفدعة ما لبثت أن توارت في العشب، وهفت نسمة مؤذنة بتداني المساء، وتخفف العالم المحدق بهم من زياطة وضوضائه، فأذن المجلس بالختام، وملأه ذلك بالجزع، فجعلت عيناه تتقلبان في المكان لتمتلئا من منظره. هنا بدت أول مرة باعثة شعاع الحب، وهنا صدح الصوت الملائكي ب «يا كمال»، وهنا دار حوار العذاب حول الرأس والأنف، وهنا عالن المعبود بخصام التجني، وفي تضاعيف هذا الجو ترقد ذكريات عواطف ومشاعر وانفعالات لو مستها يد العبث يوما لأحيت الصحراء ونضرت وجهها، املأ من هذا كله عينيك وأرخه، فإن حوادث كثيرة تبدو وكأنها لم تقع لو لم يقيدها يوم وشهر وعام، إننا نستعدي الشمس والقمر على خط الزمان المستقيم لندوره لتعود إلينا الذكريات الضائعة، ولكن لا شيء يعود أبدا، فذب في الدموع أو تسل بالابتسام.

وقف إسماعيل لطيف وهو يقول: آن لنا أن نذهب.

ترك إسماعيل يسبقه إلى عناق صاحبه، ثم جاء دوره فتعانقا طويلا طبع على خده قبلة وتلقى مثلها، فغمت خياشيمه رائحة آل شداد ممثلة في صاحبه، زكية، لطيفة، كأنها عبير غير آدمي، أو نفثات حلم دوم في سماء مليئة بالمسرات والآلام، فأفعم بها حناياه حتى ثمل. ولبث صامتا مليا حتى يملك عواطفه، غير أنه عندما تكلم تهدج صوته وهو يقول: إلى اللقاء ولو بعد حين.

35 - لا يوجد أحد إلا الخدم! - ذلك لأن ضوء النهار لم يكد يختفي بعد، والزبائن يفدون عادة مع الليل، هل ضايقك خلو المكان؟ - أبدا، خلو المكان عامل مشجع على البقاء، خاصة وأنها أول مرة. - للحانات هنا ميزات لا تقدر بثمن، فهي تقوم في طريق لا يقتحمه إلا ساع وراء لذة محرمة، فلن يكدر صفوك هنا لائم أو زاجر. وإذا عثر بك شخص تحترمه كأبيك أو ولي أمرك، كان هو الأحق باللوم والأخلق بأن يتجاهلك أو يفر من سبيلك إن استطاع. - اسم الشارع وحده فضيحة! - لكنه أدعى إلى الطمأنينة من غيره، لو أننا ذهبنا إلى إحدى حانات شارع الألفي، أو عماد الدين، أو حتى محمد علي، لما أمنا أن يرانا أب أو أخ أو عم أو ذو مال. ولكنهم لا يجيئون إلى وجه البركة فيما أرجو. - منطقك سليم، غير أني لا زلت مضطربا. - صبرك، الخطوة الأولى دائما عسيرة، ولكن الخمر مفتاح الفرج؛ لذلك أعدك بأنك ستجد الدنيا عند ذهابنا ألطف وأعذب مما عهدتها قبل ذلك. - حدثني عن أنواع الخمور، أيها الأوفق أن أبدأ به؟ - الكونياك عنيف، وإذا مزج بالبيرة فقل على شاربه السلام، الويسكي مقبول الطعم جيد الأثر، أما الزبيب ... - لعل الزبيب ألذها! ألم تسمع صالح وهو يغني: «وسقاني شراب الزبيب»؟! - طالما قلت لك: إنه لا عيب فيك إلا الإغراق في الخيال، الزبيب أقبحها رغم أنف صالح، فيه طعم الأنيسون الذي تجزع منه معدتي، فلا تقاطعني. - معذرة. - وهنالك البيرة، ولكنها شراب الحر، ونحن والحمد لله في سبتمبر، وهناك النبيذ، غير أن عاقبته لطسة بنت كلب. - إذن ... إذن ... فهو الويسكي. - برافو، توسمت فيك النجابة من قديم، ولعلك توافقني بعد قليل على أن استعدادك للهزل يفوق استعدادك للحقيقة، والخير، والجمال، والوطنية، والإنسانية، إلى آخر هذه القائمة من الخزعبلات التي تتعب بها قلبك دون جدوى.

ونادى النادل، فطلب كأسين من الويسكي. - من الحكمة أن أقنع بكأس واحدة. - قد تكون هذه هي الحكمة، غير أننا لم نجئ هنا لطلب الحكمة، وسوف تعلم بنفسك أن الجنون ألذ من الحكمة، وأن الحياة أخطر من الكتب والفكر، اذكر هذا اليوم ولا تنس صاحب الفضل عليك. - لا أحب أن أفقد الوعي، أخاف أن ... - كن حكيم نفسك. - المهم عندي أن أجد الشجاعة للسير في الدرب إياه بلا تردد، وأن أدخل عند الحاجة. - اشرب حتى تشعر بأنك لا تبالي أن تدخل. - حسن، أرجو ألا أندم على فعلتي فيما بعد. - تندم؟! طالما دعوتك من قبل فكنت تعتذر بالتقوى والتدين، ثم جاهرت بأنك لم تعد تؤمن بالدين، فكررت عليك الدعوة، فما أعجب إلا لرفضك باسم الخلق! لكن يجب أن أعترف بأنك اتبعت المنطق أخيرا.

أجل أخيرا. بعد فترة من القلق والحيرة بين أبي العلاء والخيام، أو بين التقشف واللذة. وقد نزع به طبعه إلى مذهب الأول، فإنه وإن بشر بحياة قاسية إلا أنها وافقت ما نشأ عليه من تقاليد، ولكنه لم يدر إلا ونفسه تهفو إلى الفناء، وكأن صوتا خفيا راح يهمس في أذنه: لا دين ولا عايدة ولا أمل، فليكن الموت. عند ذاك ناداه الخيام بلسان هذا الصديق فلبى محتفظا بمبادئه السامية رغم هذا، وإن يكن قد وسع من معنى الخير حتى وسع مسرات الحياة جميعا، قائلا لنفسه: إن الإيمان بالحقيقة والجمال والإنسانية أسمى أنواع الخير، وإنه لذلك كان ابن سينا يختم يوم الفكر بالشراب والحسان، ومهما يكن من أمر فإنه لم يجد سوى هذه الحياة الواعدة منقذا من الموت. - إني معك في هذا، ولكنني لم أتخل عن مبادئي. - أعلم أنك لن تتخلى عن أوهامك، طول المعاشرة جعلها حقيقة أكثر من الحقيقة نفسها، لا بأس أن تقرأ، بل وأن تكتب ما وجدت قراء، اجعل من الكتابة وسيلة للشهرة والثروة، ولكن لا تأخذها مأخذ الجد، كنت متدينا عنيفا، وأنت الآن ملحد عنيف، دائما عنيف قلق كأنك مسئول عن البشرية، الحياة أبسط من هذا كله، مركز في الحكومة يرضي النفس، ويهيئ مستوى لا بأس به من المعيشة، استمتاع بلذات الحياة بقلب متفتح خال من الهموم، استمساك بقدر من القوة والاعتداء عند اللزوم يضمن لك الكرامة والفوز، فإذا وافقت هذه الحياة الدين فبها ونعمت، وإلا فذنبه على جنبه.

الحياة أعمق وأعرض من أن تنحصر في شيء واحد ولو يكون السعادة نفسها، اللذة ملاذي، ولكن ارتقاء الجبال الصعبة سيظل مطلبي، عايدة ذهبت فيجب أن أخلق عايدة أخرى بكل ما ترمز إليه من معان، أو فلتذهب الحياة غير مأسوف عليها. - ألم تشغل فكرك أبدا بما فوق هذه الحياة من معان؟ - هق! شغلت عن ذلك بالحياة نفسها، أو بالجري بحياتي أنا، ليس في بيتنا كافر وليس فيه متدين، وهكذا أنا.

صديق ضروري مثل وقت الفراغ، شاذ المنظر مثل منظرك، موصول الذكريات بعايدة فهو في القلب. رائد هذه الدروب الغناء، جبار إن تحديته، يفتقد في المسرات دون الجد والملمات، ليس فيه للروح موضع، غاب وراء البحار صديق الروح والعقل ... فؤاد الحمزاوي ذكي ولكن لا فلسفة له. نفعي حتى في تذوق الجمال ... يبغي وراء الأدب بلاغة ينتفع بها في تحبير المرافعات، من لي بوجه حسين وروحه؟ وجاء النادل فوضع على المنضدة كأسين طويلين مضلعي الكعب، وفض سداد قارورة الصودا وصب في الكأسين، فتحول الذهب إلى بلاتين مموه باللآلئ، ورص أطبق السلطة والجبن والزيتون والمرتدلا، ثم ذهب، ردد كمال بصره بين كأسه وبين إسماعيل، فقال الأخير باسما: افعل كما أفعل، ابدأ بجرعة كبيرة، صحتك.

غير أنه اكتفى بحسوة وراح يتذوقها، ثم لبث يترقب. ولكن عقله لم يطر كما كان يتوقع فتجرع جرعة كبيرة، ثم تناول قطعة من الجبن ليغير الطعم الغريب الذي انتشر في فيه. - لا تتعجلني. - العجلة من الشيطان، المهم أن تترك مكانك وأنت على حال تمكنك من اقتحام ما تريد.

ما الذي يريد؟ امرأة ممن استثرن تقززه ونفوره وهو مفيق، فهل يحلي الشراب مرارة الابتذال. كان يناضل الغريزة بالدين وبعايدة، أما الآن فقد خلا للغريزة الجو. غير أن ثمة حافزا آخر للمغامرة هو أن يكتشف المرأة! ذلك المخلوق الغامض الذي تنطوي عايدة نفسها تحت جنسه ولو كره. لعل في ذلك عزاء عن السهاد والدموع المطوي سرها في جوف الليل المكتوم، وتكفيرا عن العذاب الدامي الذي لا أمل في التداوي منه إلا باليأس والذهول، الآن يستطيع أن يقول: إنه خرج من زنزانة الاستسلام ليخطو الخطوة الأولى في طريق الخلاص وإن يكن طريقا مخمورا محفوفا بالشهوات والمكاره. وتجرع جرعة أخرى وانتظر، ثم ابتسم، أما باطنه فكان يحتفل بمولد إحساس جديد ينفث حرارة وصبوة، فتابعه مستسلما كما يتابع نغمة حلوة. وكان إسماعيل يراقبه بإمعان، فقال باسما: أين حسين ليشهد بنفسه هذا المنظر؟

Shafi da ba'a sani ba