ثم وهو يتنهد آسفا: القصد! ربنا يهديك، وذنبك على جنبك، سأحدث محمد عفت الليلة في شأن الاحتفاظ برضوان، على أن تقوم بكل نفقاته، فعسى أن يوافق.
عند ذاك نهض ياسين وسلم على أبيه، واتجه نحو باب الدكان، وما إن خطا خطوتين حتى أدركه صوت أبيه وهو يسأله: ألا تحب ابنك ككل الآباء؟
فتوقف ياسين متلفتا نحوه، وهو يقول بإنكار: وهل يحتاج هذا إلى قرار يا أبي! إنه أعز شيء في الحياة.
فرفع السيد حاجبيه، وقال وهو يهز رأسه هزة غامضة: مع السلامة.
33
قبل الخروج إلى صلاة الجمعة بساعة، دعا أحمد عبد الجواد كمال إلى حجرته، لم يكن يدعو أحدا من أهل بيته إلى مقابلته إلا لأمر هام، والحق أنه كان مبلبل الفكر، متحفزا لاستجواب ابنه عما يشغله. وكان بعض أصحابه قد وجهوا نظره مساء أمس إلى مقال ظهر في البلاغ الأسبوعي بقلم الأديب الناشئ «كمال أحمد عبد الجواد» ومع أن أحدا منهم لم يقرأ من المقال إلا العنوان وهو «أصل الإنسان» والإمضاء وهو الأديب الناشئ «كمال أحمد عبد الجواد» فإنهم اتخذوا منه مادة للتعليق والتهنئة وممازحة السيد، حتى فكر الرجل جادا في أن يكلف الشيخ متولي عبد الصمد بعمل حجاب للشاب. قال له محمد عفت: «سجل اسم ابنك مع أسماء كبار الكتاب في مجلة واحدة، طب نفسا وادع الله أن يكتب له مستقبلا باهرا كما كتب لهم.» وقال له علي عبد الرحيم: «سمعت من شخص محترم أن المرحوم المنفلوطي ابتاع عزبة بقلمه فأبشر خيرا!» وحدثه آخرون عن القلم، وكيف شق السبيل لكثيرين إلى حظوة الحكام والزعماء، ضاربين الأمثال بشوقي وحافظ والمنفلوطي، وعندما جاء دور إبراهيم الفار داعبه قائلا: «سبحان الذي خلق من ظهر الجاهل عالما!» أما السيد فقد ألقى نظرة على العنوان ونظرة على «الأديب الناشئ»، ثم وضع المجلة فوق جبته التي كان قد نزعها بسبب حرارة يونيو وحميا الويسكي، مؤجلا قراءتها حتى ينفرد بنفسه في البيت أو في الدكان، ثم واصل سهرته بصدر منشرح وضمير تياه فخور، بل جعل يراجع نفسه لأول مرة في سخطه المكظوم على إيثار الشاب لمدرسة المعلمين قائلا: إن «الولد» فيما يبدو سيكون «شيئا» رغم اختياره غير الموفق، وبنى أحلاما على ما قيل عن «القلم»، وحظوة الكبراء، وعزبة المنفلوطي، أجل، من يدري؟ لعله لا يكون معلما فحسب، ولكن يشق السبيل حقا إلى حياة لم تخطر له هو على بال. وعند ضحى اليوم، وعند فراغه من الصلاة والإفطار، تربع على الكنبة وفتح المجلة باهتمام وراح يقرأ بصوت مرتفع ليمتلئ بمعانيها. لكن ماذا وجد فيها؟ إنه يقرأ المقالات السياسية فيفهمها دون عناء، أما هذه المقالة فإنها دارت برأسه وأفزعت قلبه، وأعاد تلاوتها بعناية فطالع كلاما عن عالم يدعى «دارون» ومجهوده في جزر نائية، ومقارنات ثقيلة بين شتى الحيوانات حتى وقف مبهوتا عند تقرير غريب يزعم أن الإنسان سلالة حيوانية! بل أنه متطور عن نوع من القردة! وكرر تلاوة الفقرة الخطيرة منزعجا، ثم لبث ذاهلا أمام هذه الحقيقة الأسيفة، وهي أن ابنا من صلبه يقرر - دون اعتراض أو مناقشة - أن الإنسان سلالة حيوانية! انزعج الرجل انزعاجا شديدا، وتساءل في حيرة : هل حقا يعلمون الأولاد هذه المعلومات الخطيرة في مدارس الحكومة؟ ثم أرسل في طلب كمال:
وجاء كمال وهو أبعد ما يكون عما يعتلج في رأس أبيه. وكان قد استدعاه قبل ذلك بأيام ليهنئه على النقل إلى السنة الثالثة فظن بالدعوة الجديدة خيرا. وبدا شاحب الوجه، ضامر الجسم كعهده في الفترة الأخيرة في حال عللتها الأسرة بالجهد الشديد الذي بذله قبيل الامتحان، ولكن غاب عنها سرها الحقيقي، وهو ما عاناه طيلة الأشهر الخمسة الماضية من ألم وعذاب، أسيرا لعاطفة مستبدة جهنمية كادت تودي به. وأشار السيد إليه بالجلوس، فجلس على طرف الكنبة متجها نحو أبيه بأدب، وعند ذاك لمح أمه جالسة أمام الصوان مشغولة بترتيب الثياب وخيطها، أما الرجل فقد رمى بالبلاغ الأسبوعي إلى الفراغ الذي يفصل بينهما على الكنبة، وقال بهدوء مصطنع: لك مقال في هذه المجلة. أليس كذلك؟
خطف غلاف المجلة عيني كمال فرنا إليه بعين ذاهلة دلت على أنه لم يكن يتوقع هذه المفاجأة قط. من أين لأبيه هذا الاطلاع المستجد على المجلات الأدبية؟ لقد سبق أن نشر في الصباح «تأملات» بين النثر والشعر المنثور ضمنها نظرات فلسفية بريئة، وأنات عاطفية. وهو آمن كل الأمن من ناحية اطلاع أبيه عليها، فلم يدر بها أحد من أسرته إلا ياسين الذي كان هو نفسه يقرؤها عليه فينصت الآخر، ثم يقول له معلقا: «هذه ثمرة توجيهي الأول لك، أنا الذي علمتك الشعر والقصص، جميل يا أستاذ، ولكن هذه فلسفة عميقة جدا، فمن أين جئت بها!» أو يقول مداعبا: «من الحسناء التي ألهمتك هذه الشكوى الرقيقة؟ ستعلم يا أستاذ يوما أنهن لا يجدي معهن إلا ضرب المراكيب.» ولكن ها هو يطلع على أخطر ما كتب، تلك المقالة التي شب التفكير فيها معركة جهنمية في صدره، وعقله كاد يحترق في أتونها، فكيف حدث هذا؟ وهل يجد له من تفسير إلا عند أصدقاء أبيه الوفديين الذين يحرصون على اقتناء كافة الجرائد والمجلات الوفدية؟ وهل يطمع في أن يخرج سالما من هذا المأزق؟ رفع عينيه عن المجلة، ثم قال بلهجة لم يمكنها من الإفصاح عن اضطرابه: بلى، خطر لي أن أكتب موضوعا تثبيتا لمعلوماتي، وتشجيعا لنفسي على مواصلة الدرس.
قال السيد أحمد بهدوئه المصطنع: لا عيب في ذلك، الكتابة في الصحف كانت ولم تزل الوسيلة إلى الجاه والحظوة عند الكبراء، ولكن المهم الموضوع الذي يكتب فيه الكاتب، ماذا أردت بهذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي، فقد غمض علي مرماك.
يا للتعاسة! ليس هذا المقال للجهر، وخاصة على مسمع من أبيه. - إنه مقال طويل يا بابا، ألم تقرأه حضرتك؟ إني أشرح فيه نظرية علمية.
Shafi da ba'a sani ba