144

Fadar Sha'awa

قصر الشوق

Nau'ikan

ندت عنه بغتة مفعمة بالحرارة والانفعال عندما رأى عايدة خارجة من باب القصر. كان يقف كعادته كل أصيل على طوار العباسية يراقب البيت من بعيد وغاية أمانيه أن يلمحها في شرفة أو نافذة. وكان يرتدي بدلة رصاصية أنيقة كأنما أراد أن يجاري الجو الذي بعثت فيه الأيام الأخيرة من مارس أريحية ولطفا وبشاشة، فضلا عن أنه كان يزداد تأنقا كلما ازداد ألما وقنوطا. وكانت عيناه لم ترها مذ خاصمته في الكشك، ولكن الحياة لم تكن تتيسر له إلا أن يحج كل أصيل إلى العباسية فيطوف بالقصر من بعيد في مثابرة لا تعرف اليأس، معللا نفسه بالأحلام، قانعا إلى حين باجتلاء المقام واجترار الذكريات. وكان الألم في الأيام الأولى للفراق كالمجنون في هذيانه ووسوسته، ولو طال به الأمد على ذلك لقضى عليه، ولكنه نجا من تلك المرحلة الخطيرة بفضل اليأس الذي وطن النفس عليه من قديم، فانسرب الألم إلى مستقر له في الأعماق يؤدي فيه وظيفته من غير أن يعطل سائر الوظائف الحيوية كأنه عضو أصيل في الجسم أو قوة جوهرية في الروح، أو أنه كان مرضا حادا هائجا ثم أزمن فزايلته الأعراض العنيفة واستقر. غير أنه لم يتعز - وكيف يتعزى عن الحب، وهو أجل ما كاشفته به الحياة؟ - ولكنه كان يؤمن إيمانا عميقا بخلود الحب، فكان عليه أن يصبر كما ينبغي لإنسان مقدور عليه بأن يصاحب داء إلى آخر العمر.

ولما رآها وهي تغادر القصر فجأة ندت عنه هذه الآهة، وتابعت عيناه عن بعد مشيتها الرشيقة التي طال تشوقه إليها حتى رقصت روحه رقصة قطر هيمانها حنينا وطربا. ومالت المعبودة إلى اليمين، وسارت في شارع السرايات، فشبت في روحه ثورة اجتاحت الهزيمة التي راض عليها النفس قرابة ثلاثة أشهر ففزع به قلبه إلى أن يطرح همومه عند قدميها، وليكن ما يكون. واتجه دون تردد إلى شارع السرايات. كان في الماضي يحذر الكلام أن يفقدها، الآن ليس ثمة ما يخاف عليه، إلى أن العذاب الذي عاناه طيلة الأشهر الثلاثة الماضية لم يدع له سبيلا إلى التردد أو التراجع. ولم تلبث أن انتبهت إلى اقتراب خطاه، فالتفتت إلى الوراء فرأته على بعد خطوات منها، ولكنها أعادت رأسها إلى وضعه الأول دون مبالاة. لم يكن يتوقع استقبالا ألطف. ولكنه قال معاتبا: أهكذا يكون اللقاء بين الأصدقاء القدماء؟

فكان الجواب أن حثت الخطى دون أن تعيره أدنى التفات، فأوسع خطوه مستمدا من ألمه عنادا، ثم قال وهو يوشك أن يحاذيها: لا تتجاهليني فهذا شيء يفوق الاحتمال، ولا داعي له لو راعيت الإنصاف.

وكان أخوف ما يخاف أن تصر على تجاهله حتى تبلغ هدفها المقصود، ولكن الصوت الرخيم خاطبه قائلا: من فضلك ابتعد عني، ودعني أسير في سلام.

فقال بإصرار وتوسل معا: ستسيرين بسلام، ولكن بعد أن نصفي الحساب.

فقالت بصوت تردد عميقا واضحا في صمت الطريق الأرستقراطي الذي بدا خاليا أو شبه خال: لا أدري شيئا عن هذا الحساب، ولا أريد أن أدري، أرجو أن تسلك سلوك الجنتلمان.

فقال بحرارة ووجد: أعدك بأن أسلك سلوكا يعتبر بالقياس إلى الجنتلمان نفسه مثاليا، وليس في وسعي أن أفعل غير هذا؛ إذ إنك أنت التي توحين إلي بسلوكي.

قالت ولم تكن تنظر إلى ناحيته: أعني أن تتركني في سلام، هذا ما عنيته. - لا أستطيع، لا أستطيع قبل أن تعلن براءتي من التهم الظالمة التي عاقبتني عليها دون استماع إلى دفاعي. - أعاقبتك أنا؟

تغاضى عن الحديث لحظة خاطفة كي يتملى سحر الحال، فقد رضيت أن تحاوره، وأن تتمهل في خطوها السعيد، وسواء أكان هذا لأنها تود أن تستمع إليه أم لأنها تتعمد إطالة المسافة حتى تتخلص منه قبل بلوغ هدفها فلن يغير هذا من الحقيقة الباهرة، وهي أنهما يسيران جنبا إلى جنب في شارع السرايات، تحف بهما أشجار الطريق الباسقة، وترنو إليهما من فوق أسوار القصور عيون النرجس الساجية وثغور الياسمين الباسمة، في هدوء عميق يتعطش قلبه المستعر إلى نفحة منه. وقال: عاقبتني أشد عقاب باختفائك عني ثلاثة أشهر كاملة وأنا أتعذب عذاب المتهم البريء. - يحسن ألا نعود إلى ذلك.

في انفعال وضراعة: بل يجب أن نعود إليه، إني مصر على ذلك، وأتوسل إليك باسم العذاب الذي عانيته حتى لم يعد بي قوة لتحمل المزيد منه.

Shafi da ba'a sani ba