نهض إبراهيم شوكت من مجلسه، ثم جلس إلى جانب السيد، وقال له: يا والدي، يؤسفني أننا أتعبناك وأضعنا وقتك الثمين هباء، فلندع الشكوى والشهادة جانبا، لندع الماضي كله جانبا، ولننظر فيما هو أهم وأجدى، ينبغي أن يكون محضرك خيرا وبركة، فلنعقد الصلح بين أمي وزوجي، وليتعهدا لك بأن يحافظا عليه على الدوام.
ارتاح السيد أحمد إلى هذا الاقتراح، غير أنه قال بلباقة وهو يهز رأسه معترضا: كلا، لن أقبل أن أعقد صلحا ، فإن الصلح لا يكون إلا بين ندين، والطرفان هنا هما والدتنا من ناحية، وابنتنا من ناحية أخرى، وليست الابنة كالأم، فيجب أولا أن تعتذر خديجة إلى أمها عما سلف، لتعفو أمها عنها إذا شاءت، ثم نتكلم بعد ذلك في الصلح.
ابتسمت العجوز حتى تضامت تجاعيدها، غير أنها نظرت نحو خديجة بحذر، ثم أعادت بصرها إلى السيد ولم تنبس، فاستطرد السيد قائلا: يبدو أن اقتراحي لم يصادف قبولا.
فقالت العجوز بامتنان: إنك لا تنطق إلا عن الصواب، سلم فوك، وبارك الله في عمرك.
وأشار السيد إلى خديجة فقامت دون تردد، واقتربت منه في انكسار لم تشعر بمثله من قبل حتى مثلت بين يديه، فقال لها بحزم: قبلي يد والدتك، وقولي لها اصفحي عني يا نينة.
آه، ما كانت تتخيل - ولا في الكابوس، أنها يمكن أن تقف هذا الموقف أبدا، ولكن أباها - أباها المعبود - هو الذي قضى به، أجل قضى به من لا تستطيع لقضائه ردا، فلتكن مشيئة الله. تحولت خديجة إلى العجوز، ومالت نحوها، ثم تناولت اليد التي رفعتها إليها - إي والله رفعتها إليها دون ممانعة ولو في الظاهر - ولثمتها، وهي تشعر باشمئزاز وتقزز وقهر أليم، ثم غمغمت قائلة: اصفحي عني يا نينة.
فنظرت العجوز إليها مليا وقد شاع البشر في وجهها، ثم قالت: صفحت عنك يا خديجة، صفحت عنك إكراما لأبيك، وقبولا لتوبتك.
وندت عنها ضحكة صبيانية، ثم استطردت تقول بتحذير: لا جدال بعد اليوم في الشركسية، ألا يكفيكم أنكم فقتم الدنيا في الطواجن والأرز المحشو؟
قال السيد بسرور: الحمد لله على الصلح، (ثم وهو يرفع رأسه إلى خديجة) ... نينة دائما ليست تيزة، هذه نينة كالأخرى سواء بسواء.
ثم بصوت منخفض أسيف: من أين جئت بهذا الخلق يا خديجة؟ ما كان ينبغي لأحد نشأ في بيتي أن يعرفه، أنسيت أمك وما تتحلى به من أدب ودماثة؟ أنسيت أن أي شر تأتينه إنما يسود وجهي أنا؟ لقد عجبت والله وأنا أستمع إلى حديث أمك، ولسوف أعجب طويلا.
Shafi da ba'a sani ba