أفرغت عايدة آخر ما في الترموث في الكوب الرابع، ثم قالت لكمال بإغراء: هلا غيرت رأيك؟ ما هي إلا شراب منعش.
فابتسم ابتسامة اعتذار وشكر، وعند ذاك خطف حسين الكوب ورفعه إلى فيه، وهو يقول: أنا بدل كمال ... (ثم وهو يتأوه) ... يجب أن نمسك وإلا متنا امتلاء.
فرغوا من الطعام، ولكن فضل منه نصف دجاجة وثلاثة سندوتشات، فخطر لكمال أن يوزعها على الغلمان الذين يتجولون في المكان، غير أنه رأى عايدة وهي تعيد السندوتشات مع الأكواب والترموث إلى السلة، فلم ير بدا من أن يعيد بقية طعامه إلى الحقيبة، وقد وردته ذكرى حديث إسماعيل لطيف عن الروح الاقتصادية لآل شداد. ووثب حسين إلى الأرض وهو يقول: لدينا مفاجأة سارة لك، أحضرنا معنا فونوغرافا وبعض الأسطوانات لتساعدنا على الهضم، ستسمع أسطوانات أوروبية من مختارات عايدة، وأخرى مصرية مثل: «حزر فزر» و«بعد العشي» و«حود من هنا»، ما رأيك في هذه المفاجأة؟
18
انتصف ديسمبر، غير أن الجو لم يجاوز حد الاعتدال إلا قليلا على رغم أن الشهر هل بعاصفة من الرياح، والأمطار، والبرد القارص، وكان كمال يقترب من سراي آل شداد في خطوات متئدة سعيدة طارحا معطفه المطوي على ساعده الأيسر، وقد دل مظهره الأنيق - خاصة مع ملاحظة ميل الجو إلى الاعتدال - على أنه جاء بمعطفه استكمالا لمظاهر الأناقة والوجاهة أكثر منه حيطة لتقلب الجو. وكانت شمس الضحى ساطعة فرجح عنده أن مجلس الأصدقاء سينعقد في كشك الحديقة - لا في الثوى حيث يجتمعون في الأيام الباردة - وأن الفرص بالتالي ستسنح لرؤية عايدة التي لا يتاح لقاؤها إلا في الحديقة، على أن الشتاء إذا كان يحرمه من لقائها في الحديقة، فإنه لم يحل دون رؤيتها في النافذة المشرفة على الممر الجانبي للحديقة، أو في الشرفة المطلة على مدخل القصر، في هذه أو تلك، وعند مقدمه أو حال منصرفه، ربما لمحها وهي معتمدة الحافة بمرفقيها، أو مفترشة راحتها بذقنها، فيرفع نحوها عينيه حانيا رأسه في ولاء العابد، فترد تحيته بابتسامة رقيقة ذات وميض يضيء له أحلام اليقظة وأحلام المنام. على أمل رؤيتها اختلس من الشرفة نظرة وهو يدخل القصر، ثم من النافذة وهو يقطع الممر الجانبي، ولكنه لم يجدها لا في هذه ولا في تلك، فاتجه - وهو يمني النفس باللقاء في الحديقة - نحو الكشك حيث رأى حسين جالسا بمفرده على غير العادة. تصافحا وقلبه يشرق بهجة المودة التي تبعثها في نفسه مطالعة هذا الوجه الصبيح، أليف روحه وعقله، واستمع إليه وهو يرحب به في لهجته المرحة الصافية قائلا: أهلا بالمعلم! الطربوش والمعطف! لا تنس في المرة القادمة الكوفية والعصا، أهلا ... أهلا.
خلع كمال طربوشه ووضعه على المنضدة، وطرح المعطف على كرسي وهو يتساءل: أين إسماعيل وحسن؟ - إسماعيل سافر إلى البلد مع والده فلن تراه اليوم، أما حسن فقد تلفن لي صباحا بأنه سيتأخر ساعة أو أكثر لكتابة بعض المحاضرات. أنت تعلم أنه طالب مثالي مثل حضرتك، وهو مصمم على نيل الليسانس هذا العام.
جلسا على كرسيين متقابلين موليين القصر ظهريهما، وقد وعد انفرادهما كمال بجلسة هادئة لا شقاق فيها، جلسة يرحب صدرها بالتأملات، غير أنها ستخلو في الوقت نفسه من النضال المتعب اللذيذ معا الذي يدعو إليه حسن سليم، والملاحظات التهكمية اللاذعة التي يبعثرها إسماعيل لطيف دون حساب، استطرد حسين قائلا: أنا على العكس منكما طالب رديء، أجل إني أستمع إلى المحاضرات مفيدا من قدرتي على تركيز الانتباه، غير أني لا أكاد أطيق مراجعة كتبي المدرسية. قالوا لي كثيرا: إن دراسة القانون تتطلب ذكاء نادرا. الأحرى أن يقولوا: إنها تتطلب غباء وصبرا. حسن سليم طالب مجد شأن الذين يحدوهم الطموح، طالما تساءلت عما يجعله يحمل نفسه فوق ما تطيق من العمل والسهر، وهو لو شاء - كأمثاله من أبناء المستشارين - لقنع من العمل بما يكفل له النجاح اعتمادا على نفوذ أبيه الذي سيضمن له في النهاية نيل الوظيفة التي يتطلع إليها، فلم أجد تفسيرا لذلك إلا كبرياءه الذي يحبب إليه التفوق، ويدفعه إليه دفعا لا هوادة فيه، أليس كذلك؟ ما رأيك فيه؟
فقال كمال في صدق: حسن شاب جدير بالإعجاب لخلقه وذكائه. - سمعت أبي يقول مرة عن أبيه سليم بك صبري: إنه مستشار فذ عادل، فيما عدا القضايا السياسية.
صادف هذا الرأي هوى في نفس كمال، لما سبق إلى علمه من تشيع سليم بك صبري إلى الأحرار الدستوريين، فقال ساخرا: معنى هذا أنه قانوني بارع، ولكنه غير أهل للقضاء.
فضحك حسين ضحكة عالية، وقال: نسيت أنني أخاطب وفديا.
Shafi da ba'a sani ba