وأفاق وصفي إلى الإجابة، وأصبحت نظرته إلى أحمد إعجابا خالصا، وازداد تحديقا فيه، وطالعته معارف سهير من وجه أحمد، فانتفض جازعا وقال: طيب اركب ... اركب الآن يا أحمد. - ولكن يا عمي أتعدني؟ - يا أخي أمك مريضة جدا، أسرع.
واضطرب أحمد لهذا النبأ، وأسرع يركب السيارة، ولم ينتبه أنه سبق عمه في الركوب، وركب وصفي، وأمر السائق أن يسرع إلى القصر، وفي الطريق راح أحمد يسأل عن تفاصيل مرض أمه، ووصفي يجيبه ذاهلا، حتى إذا لم يجد أحمد أسئلة أخرى، غاص إلى نفسه ... أتموت أمي؟ أأكون أنا قاتلها؟ أي حياة سألقاها من بعد؟ حذار ... حذار أن أجر على نفسي الخسران في دوامة هذه الأفكار، إن الموت والحياة بيد الله، الرحمة يا رب ... نجها يا رب! أأطلب منه نجاتها لأني أريدها؟ أم لأني لا أريد أن أكون أنا قاتلها؟ إني على الحالين أناني، فأنا هي الباعث في هذا الدعاء على أية حال، أهذه هي الإنسانية التي أريد أن أبلغ فيها شأوا؟ وماذا بيدي؟ كيف أسيطر على هذه الأفكار التي تمور برأسي؟ نعم إني أستطيع، ونظر إلى وصفي وقال: أنا لن أذكرك بفوزي ثانية يا عمي.
ودهش وصفي هنيهة، ثم بدا وكأنه قدر ما يعتمل بنفس الشاب، فقال له في ثقة: لن تحتاج إلى ذلك.
وبلغت السيارة باب القصر، وجرى أحمد ملهوفا إلى حجرة أمه، وفتحها ودخل، فوجد أمه تلقف أنفاسها من كمامة متصلة بأنبوبة موضوعة إلى جانبها، وما إن رأته حتى أزاحت الكمامة عن فمها وهتفت: أحمد ... ابني.
وارتمى أحمد على صدرها يقبلها في كل مكان، وراحت الأم تجذب أنفاسها، وتقبل ولدها لحظات، ثم لم تستطع، وأحس أحمد ضعفها، فسارع يبتعد عن وجهها ويعيد الكمامة إليها، وهو راكع لا يزال بجانب سريرها، وأحس أحمد يدا رقيقة تربت ظهره، وسمع صوت أبيه يقول: الحمد لله على السلامة يا أحمد.
ونظر أحمد فوجد أباه جالسا على طرف سرير أمه، ينظر إليه في حدب، فوضع رأسه على ركبته، وانطلق في بكاء صامت، تنسكب دموعه من فؤاد جازع حزين، ورأت سهير ما فعل ابنها، واستروحت المنظر، وهدأت أنفاسها قليلا، وراحت في سبات عميق.
الفصل الحادي والثلاثون
أيام قليلة مرت ... أيام قليلة استطاعت فيها سهير أن تنعم بهذه الإشراقة التي أصبحت لا تفارق وجه ابنها، فتبعث في نفسها راحة تعينها على آلامها، واستطاعت فيها أن ترى إقبال ابنها على أبيه، إقبالا فيه إشفاق، وفيه حب، وفيه تمهيد للعذر، وتقدير للطبائع، وكادت سهير ترى خوالج ابنها الجديدة مجسمة أمامها، ينبض بها قلب كبير بعيد عن الأنانية، وسمعت سهير ابنها يدعو الله أن يشفيها، سمعت الله يهتف به أحمد، فخيل إليها أن قلبه هو الذي خفق بالهتفة خفقا شديدا، كان أعلى دويا من حركة الشفاه واللسان.
ورأت سهير حسام لا يكاد يفارق بيتهم، ورأت هناء تقبل عليه في غير ما تكلف وفي ود، ورأت في عيني بنتها معاني اطمأنت لها نفسها، وهدأ لها هذا المضطرب الذي يعصف بها عصفا جائحا، أيام قليلة رأت سهير فيها سليمان يقبل على أحمد إقبال أب، ويهتم بأمره في حدب، ويلتقي وإياه على الطريق الذي سار فيه أحمد من حب ... حب بذل سليمان غاية جهده ليضع معالمه، ويظهر معارفه، ولم يكن لسليمان جهد كبير في هذا الشأن، ولكنه على أية حال يحاول، وسهير تحس بمحاولته.
أيام قليلة رأت فيها سهير البيت كما كانت تتمنى أن تراه، أو كما كانت تريد أن تصنعه، وإنها لتفكر أنه كان خليقا بالبيت أن ينشأ ويظل على ما هو عليه الآن لو كان سليمان هذا شخصا آخر، نعم وصفي الذي كان لا يكاد يغيب عن القصر لحظة في هذه الأيام الأخيرة، وصفي هذا ... ولكن ماذا يفيد الآن؟ وما البأس بنا الآن؟ أنا لا أتمنى شيئا اليوم إلا أن أشفى، فهل أشفى؟
Shafi da ba'a sani ba