وتدخل أحمد في الحديث: الله ... الأفيون المخدر الذي تسكتون به القطيع من أبناء الشعب. - أحمد، أنت في أشد الحاجة إلى هذا المخدر، لن أناقشك في الله، فإننا نحسه أولا، ونؤمن به، ثم نفكر فيه، فحين تؤمن به وتحسه، سأناقشك. - تهرب من النقاش؟ - لا، وإنما أكبر الله أن يكون محل نقاش تافه كهذا، سبحانه، إننا نؤمن به، ونحب أنفسنا، لأنها تؤمن به.
وقفز سيد واقفا: يسلم فمك يا جعفر بك، بك واحدة؟ يا جعفر باشا، يا جعفر ملك.
وقال أحمد ضائقا: هرج يا أخي هرج، يا أخي ألا تتوقر من أجل ذقنك هذه؟
وقال حسام في ضحكة عريضة: هرج يا أبا سيد هرج، ولا تهمك الذقن، فوالله لا يعجبني فيك إلا قلبك الأخضر مع ذقنك الوقور هذه.
وخرج فوزي من الحجرة جادا، وترك من فيها يضحكون من سيد، وما لبث أن عاد وهو يقول: أستئذن أنا.
وقبل أن يتكلم أحد، مد يده مضمومة إلى هناء، فمدت يدها إليه لتستقبل تحيته، فإذا أنامله تنفرج في يدها عن ورقة صغيرة محكمة اللف، وذهلت هناء هنيهة ثم ما لبثت أن تمالكت أمر نفسها، وسحبت يدها من يده، وقد أصبحت الورقة فيها.
وكان أحمد مشغولا بإثارة جعفر، وحسام مشغولا بالسخرية من السيد، ولم يكن منتبها إلى هناء إلا السيد الذي رأى كل شيء، فانعقد لسانه واجما في ذهول حيران، يهم أن يمسك بتلابيب فوزي ويقتله، ولكن يرده عن ذلك خشيته أن يذيع ما ينبغي له أن يخفي من أمر هناء، ويرد نفسه إلى الصمت فتثور عليه في عزة الفلاح، وكبر المحب، ووفاء المعترف بالفضل لهؤلاء القوم الذين يمهدون له أسباب الحياة، وينشغل القوم في توديع فوزي، ويجد السيد أن لا سبيل أمامه غير الصمت، فيصمت على ثورة في نفسه تغتلي، لا يهدأ لها أوار.
وما يكاد فوزي يخرج حتى يقول حسام: هناء، هل رأيت سيارتنا الجديدة؟
فما يند عن هناء غير «هيه» ذاهلة، فيقول حسام: هوه ... أين أنت؟ أقول لك هل رأيت سيارتنا الجديدة؟
ويقول السيد في نفسه: «يا خيبتك الكبيرة، أتسألها أين هي سارحة؟ اعلم يا خائب أنها سارحة في شيء قريب جدا منك ومنها، في جيبها يا خائب، مد يدك إلى جيبها، ولكن لا، لا تفعل، فأنا أخشى عليها أن تفجع في سرها، وقاها الله السوء، ولكن السوء كله في جيبها هذا، أدركني برحمتك يا رب، ألهمني الرشاد ماذا أفعل؟ أتراني أفكر في أمرها من أجل وفائي لأهلها، أم من أجل حبي لها؟ سؤال عجيب، لماذا لا يكون للسببين كليهما، المهم ألا أترك ابن الضائعة هذا يأخذ الفتاة من أهلها، وهل أستطيع ؟ نعم إني أستطيع، إني سأرقب هذا الفتى، فما أجعله يغيب عني لحظة، وكيف؟ إني ذاهب الآن إلى اجتماع الأسرة، لن أذهب ... طيب، وكيف أستطيع أن أراقبه إذا ركب سيارة أحمد؟ ما أظن أني في حاجة للمراقبة عندئذ، فإنه لن يذهب في صحبته إلى لقاء غرامي مع أخته، وما البأس علي إذا أنا راقبت هناء؟ هذا أجدى، أم تراه أمتع؟ يا أخي فكر في هذه المصيبة أولا، ثم فكر في حبك اليائس، على كل حال أنا هنا، رقيب عليك يا ست هناء، أينما ذهبت، فأنا حيثما تذهبين».
Shafi da ba'a sani ba