وفي قصة أخرى من قصص «هومر»: إن أمه هي التي قذفت به من سمائها بعد مولده؛ لأنها استقبحته وعافت منظره فنبذته خجلا من الظهور به بين الأرباب، وقد هبط به الشعراء المتأخرون من «أوليمب» الآلهة، وزعموا أنه يعمل في مخبأ مدفون في الأرض تحت البراكين الثائرة، فخلط الرومان بينه وبين الرب «فلكان» رب المواقد والنيران.
ويظهر أن تمثيل هيفستوس على هذه الصورة قديم متواتر بين شعوب المغرب والمشرق، ففي الإصحاح الرابع من سفر التكوين: «إن لامك اتخذ لنفسه امرأتين: اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة، فولدت صلة توبال قين الضارب كل آلة من نحاس وحديد.» وهو اسم مركب من كلمة طورانية وكلمة سامية، حيث التقت اللغتان قديما في وادي النهرين، ومعنى توبال أعرج، ومعنى قين حداد، وتطلق في العربية أحيانا على العبد المسخر في الصناعة.
قال الأستاذ سليمان البستاني مترجم إلياذة هومر في تعليقاته على النشيد الثامن عشر منها:
قيل أخذ اليونان عبادته عن المصريين حيث كان يسمى فتالي، وآلهة النار عند البلاسجة والطرواد، ثم الرومان، تدعى - فستا - تطرقت إليهم عبادتها من الفرس، ومن الغريب أن يكون هذا التشابه بين المعبودين، وأحدهما ذكر والأخرى أنثى، والأغرب من ذلك أن أول صيقل لجميع المصنوعات الحديدية والنحاسية في التوراة هو توبال قين، وتوبال أو طوبال باللغات التترية - ومنها التركية - الأعرج، وقين باللغات السامية - ومنها العربية - الحداد، وكلاهما لقب هيفست، مع أن توبال قين كان قبل عهد هوميروس بحسب نص التوراة بنحو ألفي عام.
وإذا كان هذا شأن صناع الآلات ومخترعيها بين الأرباب وأوائل الأسلاف، فلا جرم يهون شأنهم بين البشر، ويساويهم أو يقل عنهم من يعملون بها، ويعولون في معيشتهم عليها، فقد أوشك هذا العمل أن يكون من لوازم الرق والعبودية أو لوازم الضعة والهوان، فمن عمل الآلة لنفسه أو عمل بها لغيره فهما عند الأقدمين في المهانة سواء.
وجاء أرسطو فقسم النوع الإنساني إلى طبقتين: طبقة حرة ذات إرادة، وطبقة مستعبدة لا حرية لها ولا إرادة، وجعل هذه الطبقة في حكم الآلات؛ لأنها وسيلة لخدمة المسخرين لها بغير اختيارها.
ولما ظهرت آلات البخار والكهربا وشاعت المكنات الكبرى التي يديرها المئات من العمال والصناع لم يرتفع شأن العامل والصانع في نظر المحدثين عما كان عليه في نظر الأقدمين، بل هبط كثيرا في القرن الأول من نشأة الصناعة الكبرى، لأن الصناع الأولين كانوا ينفردون بأعمالهم أحيانا ويتصرفون بإدارة آلاتهم وأدواتهم، ويحتاجون إلى الذكاء والحيلة في إتقان مصنوعاتهم، ويفوقون غيرهم ممن لا يحذقون الصناعة في حسن الفهم والملاحظة، فلما نشأت المكنات الكبرى وتشابهت أعمال الصناع استغنى الصانع عن الفهم والملاحظة، وكاد أن يعتمد على يديه أو على عضلات بدنه في أداء مهمته المتكررة المتشابهة بغير تنويع أو تفكير، وصح فيه أنه أصبح في حكم الآلة التي يديرها، بل تطورت صناعة المكنات شيئا فشيئا، حتى حلت فيها المفاتيح والأزرار محل الأيدي والعضلات.
ولم يمض غير قليل على انتشار الصناعات التي تدار بالبخار والكهرباء حتى انطوت كلها في عنوان واحد يحتوي الآلات في أطوائها، ويحتوي معها أصحاب المصانع وأصحاب أموالها، وجمهرة العاملين فيها من العاملين بأفكارهم، والعاملين بأيديهم، بل يمتد حتى يحتوي سياسة الدول التي اتسعت فيها ميادين الصناعة الحديثة، ودفعتها إلى التوسع في غزو البلدان وفتح الأسواق واحتكار موارد لخامات المصنوعة، وحصر المناطق التي تباع فيها، والتنازع بينها على السيادة العالمية للاستئثار بتلك الأسواق والمناطق، والاستعداد لذلك التنازع بما يستلزمه من سلاح ومكيدة، وما يقتضيه من إثارة الفتن وشن الغارات، وإشعال نيران الحروب، فأصبحت كلمة «الصناعة الكبرى» عنوانا لجميع هذه الخطط والمطامع، ولكل ما يتصل بها من مرافق المال، ومساعي السياسة ، وبواعث الأخلاق والعادات.
ونظر المفكرون إلى «الصناعة الكبرى» في إبان نشأتها وامتدادها نظرتين متعارضتين: فمن كان من بناتها ومؤسسيها والمقيدين بنظامها فقد حسبها من ضرورات التقدم التي تقترن فيها النعمة بالنقمة، ويحتمل فيها الضرر الكبير في سبيل المنفعة التي لا غنى عنها، ومن كان من المفكرين خلوا من مطالبها وأغراضها بعيدا من قيودها وشباكها فهي عنده محنة من محن الزمن الأخير تربى سيئاتها على حسناتها وتغيب منافعها في غياهب آثامها وجرائرها، ووصفها بعضهم بالصناعة الجهنمية، وخيل إليه أن «المكنة الضخمة» إنما هي «الجقرنوت» الساحقة يركبها إله المال بدلا من إلهها القديم «فشنو»، ويجتاح بها كل ما قابله في طريقه ليستوي عليها معبودا بين قرابينه وضحاياه.
وتقابل في رأي المفكرين المنكرين عالم الصناعة وعالم الطبيعة، أو تقابلت عندهم الحياة المصطنعة الملفقة، والحياة الفطرية السليمة التي بدا لهم أنها الحياة المثلى، وأنها نقيض تلك الحياة المختلفة التي تمسخ النفوس، وتفسد ما بين الإنسان والإنسان من روابط العطف ووشائج الرحم والولاء.
Shafi da ba'a sani ba