قالوا: وأهم من ذلك أن القدرة على الحرب تزداد بازدياد القدرة على التصنيع، فالأمة التي تملك معدات الحرب لا بد أن تملك نظاما صناعيا واسع النطاق، أو أن تزود بهذه المعدات ممن يملكونها. وكلما امتدت حركة التصنيع زاد عدد الأمم التي تقدر على الحرب، وعلى تزويد نفسها بأسلحتها من المدافع والطائرات والقذائف النووية، وقد رأينا أن اليابان وبلاد الاتحاد السوفيتي كانت بين أحدث الأمم التي دخلت ميدان التصنيع، وآل بها الأمر إلى المواقف الخطرة كلما تهيأت لها معدات القدرة على شن الحروب الحديثة، ترى ماذا عسى أن يحدث إذا تسنى لأمم كالهند والصين أن تملك هذه المعدات؟
ومن جوانب الخطر التي تواجهنا ذلك التلهف المعقول من قبل الشعوب على تحسين أحوالها، فالتصنيع عمل بطيء عند النظر إلى عمر الإنسان، ومدة سنوات خمس أو عشر، تبدو من حيث التصنيع خطوة سريعة جدا من خطى النمو والتقدم، ولكن الإنسان الفرد يحتاج إلى أمد من الزمن كي يشعر بالتحسن في معيشته، ويعود سبب من أسباب ذلك إلى أن الجهود الأولى من محاولات التصنيع ينبغي أن تخصص لإقامة العدد والمعامل التي تستعد للإنتاج بعد ذلك، فتبنى المعامل التي تصنع الآلات والأدوات، ويقصر إنتاج السلع والبضائع المستنفدة على أقله وألزمه، ومعنى ذلك بلغة الاقتصاد أن يكون هناك ادخار ورأس مال متجمع، يترتب عليه تأجيل انتفاع المستنفد بالصناعة إلى حين، ثم يترتب على هذا التأجيل في المدن الناشئة على الخصوص شعور بالقلق يؤدي إلى الاضطراب والعنف، ويشتد هذا القلق مع إبطاء تهيئة المطلوب من الأغذية على حسب الاستعداد الحاضر. وقد رأينا أنه من الممكن في السنين الخمسين التالية زراعة وجه الأرض للحصول على غذاء يكفي سكان الكرة الأرضية المتكاثرين إذا استطعنا تجويد العمل الذي نقوم به الآن، وقد يتسنى لنا تدبير الغذاء في القرن المقبل إذا توخينا في الإنتاج وسائل أفضل من بعض الوسائل غير الاقتصادية التي نتوخاها الآن، ولكن مما يؤسف له أن إنتاج الطعام الكافي لا يمنعه مانع من الوجهة النظرية، في حين أنه من وجهة التنفيذ لا يستطاع سنة بعد سنة حسب الزيادة في عدد الأنفس خلال تلك السنة، وما لم يتيسر لنا إقلال النسل أو التعجيل بالإنتاج فعلينا أن نتوقع من أعمال التصنيع أن أقاليم يجوع سكانها، ويظلون زمنا طويلا في المستقبل جائعين، وثمة خطر آخر نواجهه إذا أفضى قلق الشعوب المتخلفة إلى إقامة الحكومات المستبدة محاكاة للاتحاد السوفيتي؛ أملا في التعجيل بخطوات الادخار والتصنيع وتعميم الزراعة، وقد وقع ذلك فعلا في الصين، وتحاول الهند أن تحقق برامج التصنيع على أساس النظم الديمقراطية في بيئة اقتصادية بعضها على نمط اشتراكي، وبعضها خاضع للولاية الخاصة، فإذا استمر التصنيع واستمرت زيادة السكان وقلت الأطعمة واشتد القلق والتذمر، فلا ندري هل تقوى الديمقراطية هنالك على مقاومة الطوارئ التي خلقتها، ويجوز أن تقضي عليها؟ ففي هذه الأيام التي يتأتى فيها قلب النظام الديمقراطي بين ليلة ونهار، يتعذر التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية؛ لما يتوافر للحكام من ذرائع الإقناع والإخضاع.
فإذا أمكن في الحقبة التالية أن نتجنب الحرب النووية، وأمكن الأقاليم المتخلفة في الوقت الحاضر أن تحقق برامج التصنيع، فقد اقتربنا من الزمن الذي يتم فيه تصنيع العالم، ويستطاع فيه أن نقيم أودنا باستخدام الأردأ فالأردأ من المواد الصالحة، حتى نلجأ أخيرا إلى صخور القشرة الأرضية وإلى غازات الهواء وأمواه البحار، ويومئذ تكون صناعة المناجم قد زالت وخلفتها مصانع كيمية متشبعة الأغراض، تتزود من الصخر والهواء وأمواه البحار، وتفيض منها موارد تشمل الماء العذب والقوى الكهربائية، ومواد الوقود السائل والمعادن، ومتى أفضى الإنسان إلى هذه المرحلة من ثقافته، فقد بلغ إلى الطريق التي لا رجعة فيها، فلا استئناف بعدها للطريق إذا وقع الخلل والانتقاض في نظم التصنيع العالمية، فإن السير على برامج التنظيم إنما سهل الابتداء به، والمضي فيه بما كان في حوزة الإنسان من موارد الحديد والفحم والنحاس والنفط والكبريت، وغيرها من المواد النافعة، وكلها صائرة إلى النفاد بعد حين، ولكن معارفنا النفيسة تتيح لنا أن نستغني عنها ما دامت حضارة التصنيع قائمة، أما إذا وقعت الواقعة واختلف صوت الحضارة، فمن المشكوك فيه أن نقدر بعد ذلك على النهوض فوق طبقة المعيشة الزراعية.
إن المصادر اللازمة لإعادة الانتفاع بالصخر وماء البحر، وإعادة تركيب النظم المتشابكة من برامج التصنيع قد تكون أعظم جدا مما يستطاع السيطرة عليه. وتصور مثلا أن القوة اللازمة لإعادة الشبكة الصناعية لا بد أن تستمد من مصادر نووية، وأن هذه المصادر لا بد أن تقام بوقود غير وقود الفحم والنفط وكل وقود عدا الصخور، ففي هذه الحالة - مع فقدان الطاقة الصالحة - يتعذر الانتفاع ببقايا الحضارة الصناعية، وسيأتي اليوم الذي قد تنسحب فيه المعرفة الفنية، وتجنح إلى الاحتجاب، وقد حدث في القرون الوسطى أن أمناء تلك العصور استخدموا وجهات الرخام الرومانية في المباني الجديدة حقبة من الدهر، بعد نسيان الكثير مما عرفه الرومان من هندسة البناء، وأن الذي يحدث عدا في مثل هذه الحالة لأعظم مما حدث من قبل بكثير.
وكذلك نرى أن مشكلات الغد كثيرة خطيرة، وأننا من الوجهة النظرية قادرون على تدبير حلولها بما نملكه من القدرة الفكرية، ومثال ذلك أن بعض الأخطار يسهل اتقاؤها بإقامة الهيئات الدولية التي يراد بها منع الحروب كهيئة الأمم المتحدة وسائر الهيئات التي تشرف عليها، وغير هذه الأخطار قد يسهل اتقاؤه ببذل الجهد في الإقلال من ظروف التعرض والاستهداف، وغيرها قد يسهل اتقاؤه بالاتفاق بين المجتمعات المصنعة على تمهيد دور الانتقال إلى التصنيع في المجتمعات المتخلفة بأقل ما يستطاع من المشقة، ويتم هذا الانتقال بإعارة رأس المال والإعانة بالخبرة الفنية، كما يتم أيضا بابتداع أساليب مستحدثة في الصناعة والزراعة والتعليم وتحديد النسل، وهي أساليب لم تستخدم في الغرب حتى الآن لقلة الحاجة إليها، ولكنها قد تجدي كبير الجدوى في البلاد التي لا تزال آخذه ببرنامج التطور.
وقد شرعنا منذ خمس وعشرين سنة في جمع المعلومات النافعة للاهتداء إلى أفضل الأساليب لمعونة البلاد المتخلفة على إنتاج طعامها، وأخذنا ندرك بعض العقد والعوائق التي تحد من محاصيل الزراعة، ورأينا أن سير العمل بطيء في مشروعات الزراعة؛ لأنه يستدعي تعليم العدد الكبير من الزراع، وتعديل طرائقهم وأساليب تفكيرهم وآرائهم الثقافية، ومأثوراتهم التقليدية، وهي جميعا مما يعسر تغييره في وقت قريب، وإننا لفي مسيس الحاجة إلى مزيد من الفهم والإحاطة بعوامل نشر الأساليب الزراعية الجديدة، وتشجيع المجتمعات المتخلفة على قبول المعرفة المستحدثة، وكذلك ينبغي النظر في أمر تحديد النسل عند البحث في ترقية الأحوال الاقتصادية، ولعل الصعوبة في تحديد النسل في المجتمعات الزراعية ترجع إلى الآراء والمعتقدات. على أن تحديد النسل عندها يفيد في التطور الاقتصادي، ويعتبر بمثابة الزيادة في محصول الزراعة والصناعة، ومن الواضح أن الشعوب التي تريد المحافظة على نقص نسبة الوفيات ينبغي أن تقابل ذلك بنقص المواليد، ومؤدى ذلك قبول تحديد النسل، وأن تكون الحيطة لاتقاء الجوع والفاقة بمقدار قبوله في أوسع نطاق.
بيد أننا أمعنا النظر وأبعدناه إلى أقصى المدى فيما نترقب للعالم الواسع من الأطوار خلال القرن المقبل، فالمشاكل الكبرى من قبل الصناعة أهون من مشاكل العلاقات بين الناس، ودواعي التفاهم بينهم على التعاون والاتفاق، وأن ينظموا أنفسهم بحيث تنصرف عبقريتهم، وتصورهم إلى المشكلات التي تواجههم، وتتلخص مشكلتهم الكبرى في موالاة قوانا الفكرية بالتوسيع والتوفير والتحسين والتعبئة والتجهيز.
إن العلماء السلوكيين والأخلاقيين أخذوا يكشفون الغطاء عن بعض مبادئ السلوك الإنساني، وسيزدادون بها علما، ويعولون عليها في تربية أطفال أهم وأسلم، وفي تمكين الناشئين من الانتفاع - أتم انتفاع - بملكاتهم ومواهبهم، ولنا أن نأمل الاهتداء إلى آراء خير من آرائنا الحاضرة في إدراك طبائع الإنسان، وأسرار التفكير المنتج، وأسرار التخيل والبصيرة الباطنة، وكلما ازددنا علما بدوافع حركات الجماعات وبواطن السلوك الاجتماعي والسياسي، أعان هذا العلم على توجيه العواطف والأحاسيس إلى العمل البنائي والأهداف الصالحة، وعلى صرفه عن أعمال الهدم والعدوان، والإكثار شيئا فشيئا من عدد الشبان القادرين على الابتكار والإبداع، ولكن هل تتوافق المساعي الموجهة إلى الإصلاح الحيوي والسلامة البدنية، والمساعي الموجهة إلى تنمية الإدراك وسلامة التفكير؟ وهل يتخذ الإنسان الخطوة اللازمة في الوقت اللازم لحسن التصرف في مسائل التصنيع التي تفتأ تتشابك وتتركب على الدوام؟ هل يسوس الإنسان دوافع شعوره قبل أن تهلكه وتقضي عليه؟ ذلك هو محور المشكلات جمعاء.
لقد رأينا أن الإنسان قادر - من حيث المبدأ - إذا أراد أن يعيش عيشة الوفر والإنشاء في نطاق الحرية، وظاهر أن الصعوبات جمة، والأخطار كثيرة، ولكن الأمر الواضح هو ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به لتذليل العقبات، ويبقى علينا أن نرى غدا هل يدرك هذه المشكلات في حينها ليبلغ إلى حظ من السلامة أوفر وأعلى، أو يسمح بضياع حظه الراهن من الحضارة، وذهابه إلى حيث لا نجاة ولا مآب، ومصير المجتمع الصناعي يدور حول السؤال عن اقتدار الإنسان على العيش مع أخيه الإنسان. •••
هذه البحوث التي لخصنا بعضها، وترجمنا بعضها بقليل من التصرف، قد ألمت بمستقبل التعليم فيما يواجه ضرورات التموين والتصنيع، وفيما يواجه ضرورات التفاهم والتعاون بين الأمم خلال الفترة التي تنقضي في تعميم هذا التعليم والترغيب فيه، ويرى الخبراء أن إعداد العالم للمعيشة الحرة الرخية أمر مستطاع ميسر الأسباب إذا صحت عزيمة الإنسان عليه.
Shafi da ba'a sani ba