والاقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم، دفعوا في صدره، وحقروا من أمره، إلاَّ أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علومٍ على رسم التبعية" (١)، وكان ﵀ يرى أن رزية الانكماش والقصور والركود وضيق الأفق، مشكلة صعبةُ العلاج، بعيدة الزوال؛ لأنها تعطيل للأنظار، وطبع على المدارك، فهيهات أن يستطيع محاول إصلاحها، ويعتقد أن رزية التفرق والزَّيْغِ والجحود التي نزلت بالحياة الثقافية بالمشرق أقرب إلى الأمل في العلاج، وأرجى للدفع والاقتلاع، لأنه ما دام جوهر الإدراك سالمًا ناميًا متحركًا فإن عوامل الهداية لن تعوز، ووسائل التقويم والتصويب لن تبعد، ومن هنا اطمأن إلى حياة العلوم الدينية بالمشرق على ما فيها من بدع وخرافات إذ هي الحياة الممكنة، وإن حياة علوم الدين بالمغرب قد رانت عليها نزعةُ التقليد، والإحجامُ عن النظر، والقصور بالمعاني الشرعية السليمة عن غاياتها ومقاصدها، وإن كل ما فيها من خير إنما يرجع إلى خلوها من البدع العقدية المنكرة. يقول في العواصم مثنيًا على أهل المغرب لسلامته من تلك البلايا: (٢) " ... خرجت من بلادي على الفطرة فلم ألق في طريقي إلا من كان على سنن الهدى، يغبطني في ديني، ويزيدني في يقيني، حتى بلغت بلاد هذه الطائفة (مصر) ... فلم يبق باطل إلّا سمعته، ولا كفر إلاَّ شوفهت به ووعيته ... " (٣).
قلت: ومع كل هَذه الطامات فإن ابن العربى كان قوي الميل إلى المشرق، عظيم الشغف والِإعجاب به، شديد الِإدْلاَلِ بمعرفته، قوي الاعتزاز بما طبع عليه المشرق من ملكات، وما أكسبه من مواهب وقدرات، فكان ابن العربي يرى أن في كل من الموضعين الشرقي والغربي مزايا ورزايا، إلا أن مزايا الوضع الثقافي بالمغرب هي سلامته، ورزيته في ركوده
_________
(١) العواصم: ٤٩٠ - ٤٩١.
(٢) محمد الفاضل بن عاشور: ومضات فكر: ١٤١ - ١٤٢.
(٣) العواصم: ٥٩ - ٦٠.
1 / 78