يقول ابن طُمْلُوس: " ... وكان ما يتصرف فيه من المسائل في أول الأمر (في الأندلس) على مذهب الأوزاعي، ثم انتقلوا إلى مذهب مالك بن أنس رضي الله عن جميعهم، فغدوا بمحبة هذا العلم والشغف به، ونشؤوا على تعظيم أهله واعتقاد صدقهم وبغض مخالفيه، وذلك أنهم -لما كانوا يعتقدون فيه أنه الحق وأنه من عند الله- اعتقدوا في مخالفيه الكفر والزندقة ... ولما امتدت الأيام وسافر أهل الأندلس إلى المشرق، ورأوا هناك العلماء وأخذوا عنهم المذاهب -أعني مذاهب الأئمة المشهورين- وكتب الحديث، وانقلبوا إلى الأندلس، بما أخذوه عن شيوخهم، وما جلبوه من المسائل الغريبة، رأى علماء الأندلس أن ما أتى به هؤلاء الداخلون هو مخالف لمذهبهم أو بعضه، وكان المخالف عندهم كافرًا، لمخالفته الحق الذي جاء به الرسول عن الله تعالى. فاعتقدوا لذلك في هؤلاء الواصلين من المشرق بعلم المذاهب المنسوبة إلى الأئمة وبعلوم الحديث أنهم كفار وزنادقة، وقرروا ذلك عند العوام وعند آل السلطان، وقاموا في طلب دمائهم وهتكهم نصرة لدين الله تعالى على ذممهم.
وأعظم من امتحن على أيديهم من أفاضل العلماء، ولقي كل مكروه منهم "بَقِيّ بن مَخْلَد"، وكادت نفسه تذهب وتمزق كلّ ممزق، لولا الأمير (١) في ذلك الوقت، فإنه تثبت في أمره، وطالع ما عنده فاستحسنه، وكان من جملة الذي أتى به من علم الحديث مسند ابن أبي شيبة، فأمر الأمير بمطالعة ما عنده والأخذ عنه، فانصرف الناس إلى "بقيّ" قليلًا قليلًا، وأخذ عنه الحديث وما نقل عن الأئمة. وطالت الأيام، فعاد ما كان منكرًا عندهم مألوفًا، وما اعتقدوه كفرًا وزندقة إيمانًا ودينًا حقًّا.
فدانوا بهذا مدة ودأبوا عليه، إلى أن اتصل بهم علم أصول الدين، فاعتقدوا فيه ما اعتقدوه أولًا في مذاهب الأئمة من أنه كفر وزندقة، ولذلك
_________
(١) قلت: إسناد دفع المكروه وحصول النفع إلى الأسباب غير سديد إذ يتنافى مع تحقيق التوحيد.
1 / 65