(أما) قولهم إن السلف كانوا يبطنون مثل هذا المعنى فغير مسلَّم، إنما كانوا يستدلون بالتنبيه العرفي، أو الذي يقتضيه اللفظ من جهة اللسان، فأما الاعتبار بالمعنى الباطن الذي يجري مجرى الرموز، فلم تفعله قط، ولا يوجد في أغراضها من طريق صحيحة.
وأما قولهم: إن هذا المقصود في الشريعة من التأديب والإِصلاح، فكلًا إنما أدبت وأصلحت الخلق بما أذنت به وصرحت، وما اقتضاه لسان المخاطبين.
وأما حديث عمر ﵁ فأصل صحيح، فإن الناس ما زالوا قديمًا وحديثًا بأغراضهم الفاسدة، يقلبون القرآن، ويبدلون ما سمعوا من النبي ﷺ، كما قال عنه: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ [البقرة: ٧٥]، وكانوا يقولون للنبي ﵇: ﴿رَاعِنَا﴾ [البقرة: ١٠٤] (١) وأنتم ممن يبدل كلام الله، ولا تتأولونه كما يجب، وتضعونه في غير موضعه" (٢).
قلت: وبهذه الردود الحاسمة يتضح لنا موقف ابن العربي من التفسير الإشاري، فهو يرفضه جملة وتفصيلًا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل وفَّى ابن العربي بالتقيد بهذا المنهج السني في كل ما حرره من مباحث وتعليقات؟ أعتقد أنه وفَّى بهذا الالتزام في كتابه العواصم حيث أنه رد على الذين فسروا الحديث النبوي الذي يقول فيه النبي ﷺ: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة" (٣)، بأن معناه مع الإقرار بمعناه الظاهري - تنبيه على تطهير القلوب عن الحسد والحقد وسائر الصفات الذميمة، وإن القلوب هي منازل الملائكة، فإذا طهرت المنازل الحسية عن أجسام الكلاب
(١) الآية الكريمة ير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
(٢) العواصم من القواصم: ٢٧١ - ٢٧٢.
(٣) هو بعض حديث رواه مسلم في اللباس رقم ٢١٠٧ والترمذي في صفة القيامة رقم ٢٤٧٠ (وانظر عارضة الأحوذي ١٠/ ٢٤٧).