قلت: صدق ابن حزم الأندلسي فإن العصمة لرسول الله ﷺ، وقد صرح كل إمام من أئمة المذاهب بأنه "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" (١) وقالوا أيضًا: "إذا قلت قولًا فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقهما فاقبلوه، وما خالفهما فردوه واضربوا بقولي عرض الحائط" (٢).
ويا ليت مالكية الأندلس والمغرب الِإسلامي اقتصروا على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ متمثلة في الموطأ، ولكنهم منذ أواسط القرن الثالث إلى عصر أبي بكر بن العربي بعدوا عن المعاني الشافعية المتمثلة في الكتاب والسنة، وتركوا حتى أقوال إمامهم في المدونة وعوّضوها بالمختصرات وبكتب الفروع الأخرى، مع أن المدونة مفهومة بنفسها لا تحتاج إلى شرح في غالب مواضعها. وهكذا نرى فقهاء المالكية يذهبون من الأسهل إلى الصعب، ومن المبسط إلى المعقد، ظنًّا منهم أنهم يختصرون الفقه، ويوفرون الوقت على طلاب العلم، مع أنه العكس من ذلك، فقد زادوا الفقه تعقيدًا على تعقيد، وأبعدوه عن منبعه الصافي الأصيل بسبب هاته المختصرات المجحفة (٣)، وعن هذه الاختصارات يقول ابن خلدون: "وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، ثم فيه -مع ذلك- شغل كبير عن التعلم، بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها ... فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت، فقصدوا إلى
_________
(١) صرح بذلك الإِمامان أبو حنيفة والشافعي ﵄ انظر: مجموع رسائل ابن عابدين: ١/ ٢٤، إيقاظ الهمم للفلاني: ٦٢، ١٠٧.
(٢) من أقوال الإِمام الشافعي ﵁، انظر المجموع للنووي ١/ ٦٣، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: ١/ ٣٦١.
(٣) ولا تسل عن القرون المتأخرة إلى يومنا هذا، فقد بلغ التعقيد مداه مثلًا ابن الحاجب (ت: ٦٤٦) اختصر كتاب التهذيب للبراذعي (ت: ٤٠٠) في مختصره الفرعي الشهير، فجاء كالبرنامج للمذهب، وبعد ابن الحاجب جاء (سيدي) خليل (ت: ٧٧٦) فاختصر مختصر ابن الحاجب، وهنا بلغ الاختصار غايته لأن مختصر خليل، مختصر مختصر المختصر بتكرار الإِضافات ثلاث مرات، مع العلم أن كتاب البراذعي هو مختصر النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (ت: ٣٨
1 / 34