فبات تلك الليلة على أن ينتقل بأثاثه في اليوم التالي إلى منزل والده، الذي ألح عليه بوجوب الإقامة معهم.
ولما كان الصباح، جمع أمتعته بمساعدة خادمه، وبينما كان يرصف الكتب، رأى بينها على المائدة منديلا لطيف الصنع، فتناوله حتى فاحت منه رائحة طيبة، كانت تستعمله روزه عادة، فتأكد أنه لها، ولا سيما بعد أن رأى مطرزا إلى جانبه حرف الراء.
فجعل يقبله ويسقيه بدموعه، متلهفا على أيام قضاها بقربها، مستنشقا ذلك العطر مع أنفاسها الزكية.
ثم خطر له أن يبحث عن سبب وصول ذلك المنديل إلى مخدعه، فدعا خادمه وقال له: لمن هذا المنديل؟ ومن أتى به إلى هذا المكان؟
فلم يعلم الخادم بم يجيبه، فإنه كان قد رآه قبل ذلك الحين، فلم يشك أنه لسيده، وبعد تردد طويل قال: لا أعلم. - كيف تجهل ذلك والمنديل يخص امرأة، فإذا لم تكن تعلم أنت الذي أتيت به إلى هذا المكان، فلا بد أن صاحبته دخلت هذ الحجرة، فسقط منها اتفاقا، وفي كلتا الحالتين ينبغي أن تطلعني على جلية الأمر.
فتذكر الخادم مجيء السيدة روزه رافائيل منذ بضعة أشهر، وأدرك أن المنديل لا بد أن يكون قد سقط منها وقتئذ، إذ لم يدخل غرفة سيده سواها من النساء، فوقع في حيرة بين أن يقر له بالحقيقة فيقع تحت اللوم، أو يلجأ إلى الخداع فلا يروج عليه المقال.
ولحظ عزيز ارتباكه، فداخلته الظنون، وألح عليه بالجواب، فلم ير الخادم بدا من الإقرار، ولا سيما بعد أن شاهد في سيده علائم الحدة والغضب، فأعلمه بزيارة روزه.
فصاح عزيز مندهشا: السيدة روزه رافائيل ... أتت إلى منزلي؟ متى كان ذلك؟ - لا أذكر تاريخ اليوم، ولكني أذكر أن سيدي عاد إلى المنزل يومئذ نحو الساعة السابعة صباحا، وكان الكدر آخذا منه كل مأخذ، فناولته رسالة كان قد أحضرها أحد الخدم، بعد اطلاعه عليها تبدلت ملامحه من العبوسة إلى الطلاقة ثم دخل مخدعه، ولم تكن إلا ساعة حتى خرج مسرعا، وعليه ملامح القلق، وبعدئذ حضرت السيدة روزه رافائيل. - وهل كانت وحدها؟ - لا، بل يصحبها خادم لها، وقد طلبت إلي أن أدخلها إلى مخدع سيدي، وكانت تحمل رسالة إليه. - وبعد ذلك ...؟ - بعد أن مكثت نحو ربع ساعة عادت من حيث أتت، ولم أر الرسالة عند ذلك في يدها. - ويحك! لم لم تخبرني بمجيئها قبل الآن؟ - لم أجسر على مخاطبة سيدى آنئذ؛ لما كان عليه من الغضب، ولعلمي أنه لا بد من أن يعلم ذلك في منزل سيدي رافائيل أثناء زيارته له.
وعند ذلك صرف خادمه وأطرق برأسه وهو يقول: أواه! ما أشقاني! لقد حضرت بنفسها لتبشرني بالنجاة بعد أن سعت لي عند والدها بالشفاعة، فقابلتها بالهجران، ورضيت من الدنيا بمودة فتاة ساذجة جذبت إليها بعامل الإخاء، فلقد كنت غبيا وقتئذ، ولم أدرك قيمة ذاتها وخلوص ودادها، أما الآن فقد اتضح لعيني كل شيء، ولكن هل تعلم هي ما أقاسيه من الحسرات؟ وهل يرد لنا الدهر ما فات؟
ثم اقترب من مكتبه، واستأنف رصف كتبه وهو يصعد الزفرات، ويعيد في ذهنه ماضي أيام قرب روزه وحلاوة اجتماعات سمح الدهر بها حينا وانقضت.
Shafi da ba'a sani ba