وبعد قليل انطلق لسان يوسف من عقدته، ونظر إلى ابنته بانعطاف، وسألها أن توافيه بقليل من دواء كان بجانبه، فأسرعت وناولته جرعة ممزوجة بدموعها، وبعد أن شربها شعر بقليل من الراحة والنشاط، فقبض على يد ابنته بإحدى يديه وبالأخرى على يد فريد، وقال: اعلمي يا بنية أنني راحل عن هذه الديار الفانية، ولم يبق لي فيها سوى دقائق معدودة، والذي يحزنني هو أنني سأتركك وحيدة في هذا العالم، لا أحد يعتني بك أو يهتم بشأنك، وعليه فأرى أن يكون لك رفيق يشاطرك الحياة ويقاسمك الملاذ، ولا أجد من هو أليق من صديقنا فريد الذي على ما أعهد فيه من نبل الأخلاق، وطيب العنصر، قد تجدين فيه خير نصير، وأحسن نصيب. وهنا حول نظره نحو الفتى، كأنه يطلب مصادقته على قوله، فأجاب هذا: إني أقسم لك بشرفي أن أبذل ما في وسعي؛ لكي أجعلها سعيدة.
فأردف الأب قائلا: ولا تظني يا ابنتي أن سعادة الزواج لا تتم إلا حيث يحل الغرام؛ فرب هوى أفضى بذويه إلى ريبة، وأوصلهم إلى سوء المصير، وكم من متزوجين حسنت حالهم، وسعدت أيامهم، وهم لا يعرفون من الحب سوى ما داخل قلوبهم رويدا مع طول الألفة، وتوالي الأيام، فإن الخلال الحسنة والصفات الحميدة هي التي تجعل كلا من الزوجين محترما من رفيقه، وإنكما لواجدان ذلك في بعضيكما، فليس ما يمنع من تآلفكما إذن، واتحاد قلبيكما، فعديني أيتها العزيزة بأن تجيبي طلبي، وتدعيني أنزل لحدي بسلام.
فاضطربت الفتاة لهذه المفاجأة، ولم تقو على الكلام.
فرأى والدها ترددها، وشعر بارتعاش يدها في يده، فضغط على أناملها بمنتهى الحنو وقال لها: روزه، روزه، اذكري محبتي لك، وعدم رفضي لشيء من رغائبك، أفترفضين الشيء الوحيد الذي أطلبه منك، وأنا على حافة الأبدية.
فتأثرت روزه من حديث والدها، ورأت أن لا بد من طاعته، ولا سيما أنه قد عانى كثيرا من الأحزان والآلام، فلم يعد يمكنها أن تضيف إلى ذلك حزنا آخر برفضها منة يرتجيها منها في آخر ساعات حياته، ومن جهة أخرى لم يكن ما يمنع اقترانها بفريد ما دامت مطلقة القياد، وما دام هو راغبا فيها، فإذا كان الغرام في شرع العاقلين ليس من ضروريات الزواج، فليس ما ترتجيه من دنياها أفضل من ذلك النصيب، وهي التي نبذ فؤادها الهوى، وأقفل بابه في وجه الغرام، فسيان عندها هذا أو ذاك، ما دامت مضطرة إلى من يحميها، ويرافقها في هذه الحياة التي عدمت من كل سلو وعزاء.
فانحنت على يد والدها، وقبلتها قائلة: إني أعدك بما تشاء يا أيها الوالد الحنون. - الآن طابت نفسي، فسأموت قرير العين.
ثم ضم يديها بين يديه، وخاطب فريد قائلا: وما يمنع من قرانكما في الحال، فتبتهج نفسي، وتباركما.
فتبادل فريد وروزه النظر، ولم ير منها ترددا، فنهض وهو يقول: سيكون كما تريد يا سيدي.
وبعد مضي دقائق قليلة، كان العروسان واقفين أمام سرير المحتضر، وإلى جانبهما كاهن يبارك قرانهما، ووراءهم الممرضات، والخدم وقوفا يشاهدون تلك اللحظة البسيطة، ويوسف ينظر إليهما، وابتسامة ظاهرة على شفتيه المفتوحتين، ولبث شاخص البصر إليهما حتى انتهت واجبات الكاهن، ففتح ذراعيه وضمهما بما بقي لديه من القوة، ولم تكن إلا ساعة حتى لفظ روعه بين دموعهما وابتسامته.
الفصل العشرون
Shafi da ba'a sani ba