وكان عزيز قد وافى منزله على أثر خروج روزه منه، فدخله وفؤاده طافح بالأحزان، وأفكاره غارقة في لجج اليأس، فجلس أمام مكتبه، وأسند رأسه إلى يديه، وجعل يراجع ما في مخيلته، وما مر عليه من الحوادث، وينظر آسفا إلى آثار تلك القصور التي كان يحاول بناءها في ساحة الآمال، فقوضتها أيدي الظروف في لحظة من الزمن، وتركته يخبط في ظلام القنوط دون أن يجد مناصا من حكم القضاء، أو وسيلة لدفع ذلك البلاء، وأخيرا ضاقت الدنيا في وجهه، فاندفع يسير في الغرفة طولا وعرضا، ونيران الحزن تزداد في فؤاده اضطراما حتى غدا صدره كبركان ثائر، ثم أخرج من جيبه لفافة تبغ، فوضعها بين شفتيه، واقترب من المنضدة يبحث عن نفط لإشعالها.
فوقعت عينه اتفاقا على الذخيرة، وكانت لم تزل حيث وضعتها روزه مع الكتاب، فبهت لدى رؤيتها، وتناولها بيده مستغربا أمر وصولها إلى مخدعه، ثم رأى العبارة التي خطتها أنامل خطيبته على ظاهر الكتاب، فاتضح لديه سر الأمر، وشعر كأن خنجرا وخزه في فؤاده المفعم بالحسرات، غير أنه لم يبد إشارة تدل على لومها وعتابها؛ لأن الحال التي أضحى فيها من صغر النفس، ومرارة اليأس بارتكاب تلك الجريمة، لا يستغرب مثل ذلك الكره والنفار اللذين نالاه منها باستحقاق.
ولم يكد يتصفح الكتاب حتى ازدادت نفسه صغرا أمام مكارم والدها، وانسحق فؤاده تحت تلك الرحمة التي لم ير نفسه أهلا لها، فتفجرت مآقيه بعد طول الاحتباس، وشعر كأن حملا ثقيلا قد تزحزح عن صدره، فطوى الكتاب ودسه في جيبه كمن يحرص على كنز ثمين، وسار توا إلى مصرف صديقه يوسف بعد أن استفهم من خادمه عن كيفية وصول الكتاب والذخيرة إلى مخدعه، فأجابه مموها أن بعض الخدم قد أحضرهما.
ولما بلغ المصرف قابله يوسف ببشاشته المعهودة، فأكب عزيز على يديه يقبلهما شاكرا، ويثني على مروءته وشهامته، فطيب هذا خاطره، وبلغه صفحه شفاها، وفوق ذلك وعده بإبقائه في خدمته، دون أن يوضح له الأسباب التي دعته إلى ذلك الانقلاب؛ حفظا لشرف ابنته وضنا بكرامتها.
ومر ذلك اليوم والذي بعده وعزيز مواظب على أعماله في المصرف كالعادة، وأفكاره متجهة نحو روزه يتلهف لمشاهدتها، ولا يجسر على زيارتها والمثول أمامها بعد الذي تحقق من كرهها ونفارها، فحاول سلوها والتشاغل عن ذكرها بممارسة الأعمال ومعاشرة الخلان.
وكثيرا ما كان يزور أسرة حبيب، فيصادف بينهم كل ترحيب وإكرام؛ ولا سيما ماري التي لقي من أنسها وانعطافها ما حبب إليه كثرة التردد، وساعده على مداواة جرح الفؤاد، غير أنه كان إذا خلا بنفسه تتمثل له روزه بكامل أوصافها وجمال طلعتها؛ فيرى نفسه صغيرا لدى عظمة ذاتها ذليلا أمام عزة نفسها، فيحاول الهرب من تلك الأفكار، والتشاغل بذكر ماري التي أسرت لبه بخفة روحها، وتهالكها في سبيل رضاه، فيقابل بين الاثنتين، فيجد بونا في أخلاقهما يحاكي ما يجده من الفراق في حبه لكلتيهما، فكان مع شدة ميله إلى ماري وارتياحه لعشرتها، لا يشعر نحوها بما لروزه من السلطة على فؤاده والاستسلام لسلطان هواها، بل كانت منزلتها من قلبه منزلة لعبة يلهو بها عن أتراح الدنيا وأثقال الحياة.
ولنعد الآن إلى روزه، فإنها عادت منزلها مظلمة الوجه جامدة العينين، يخيل لمن يراها أنها في حالة سكون وهدوء، لولا ما يرى من اضطراب خطواتها واتساع حدقتيها وشرود بصرها، فكانت تخطر في مخدعها ذهابا وإيابا وأفكارها ذاهلة وتنهداتها متواصلة، وأحيانا تقف فجأة كمن به مس، فتفرك كفيها بمرارة، ثم تعود إلى أسرع من مسيرها الأول دون أن تستقر على حال، كأنها تطلب ملجأ من ذلك اليأس الذي سقطت فيه آمالها، أو تبحث فيما يلطف نيران الأشجان المتقدة في أحشائها، وأخيرا شعرت بخور عزيمتها، وضيق صدرها، بحيث لم يعد يمكنها الاستمرار على تلك الحال؛ فانطرحت على مقعد مستسلمة لعوامل الأحزان، فكان قلبها يخفق بشدة وصدرها يكاد ينفجر بما جرعته من غصص الكرب، وما عتمت بعد ذلك أن هطلت دموعها ففرجت همها، وأطلقت نفسها من عقال اليأس، فاستوت جالسة، وأخذت رأسها بين يديها، وهامت في بيداء التفكير.
وبينما هي كذلك، إذ أومض برق الأمل في فؤادها فأنعشه، فرفعت رأسها، وتنهدت طويلا كمن اهتدى إلى حل لمشكل اضطرابه، وقالت: أجل، إنها هائمة به، وقد أقرت له بذلك ... ولكن ... هو ... هل يهواها ...؟ وهل كتب لها ...؟ آه من لي، فيطلعني على حقيقة الأمر، ويزحزح عن بصري غمامة تعذب دونها ظلمة القبر؟ هي الأيام بيننا، وسنرى ما يأتي به الغد، فإذا كان لم يزل على وده وإخلاصه، ولم يدخله من هوى ماري ما يجعله يفضلها علي، فلن يلبث أن يأتي معتذرا مستعطفا، بحيث يعيد المياه إلى مجاريها بكلمة من فيه، ولا سيما بعد الذي رآه من صفحنا عنه وشدة تعلقي به، وأما إذا كان هوى ماري قد محا رسمي من فؤاده، فيحسب علمي إلهاما من السماء جاء طبق غايته ومراده، فحينئذ لا يجب أن آسف عليه، أو أن أجعل قيد هواي واسطة للحصول عليه.
ومضت بعد ذلك بضعة أيام وعزيز لم يعد إليها، فأخذ أملها الأخير يضمحل، وثقتها برجوعه تقل، إلى أن تلاشى الخيط الأخير من حبال رجائها، فقامت عندها قيامة الأحزان، ولازمت العزلة والنواح إلى أن هزل جسمها، وأصبحت لا تقوى على الخروج من منزلها؛ لفرط ما حل بها من الضعف والسقام، فكانت تصرف أكثر أوقاتها بالقراءة، وتارة تلهي نفسها ببعض أشغال يدوية، وأحيانا تخرج إلى الحديقة مستندة إلى ذراع خادمتها، فتجلس في ظل الأشجار، وتذكر أياما قضتها مع الحبيب بين خرير المياه وتغريد الطيور، وتنظر حولها حينئذ فترى نفسها وحيدة، لا أنيس لها سوى بعض الأزهار، وقد مالت نحوها كأنها شاعرة بنيران أحزانها لتلطفها بماء خضرتها، فتنحني روزه لاستنشاق عبيرها كوالدة تتكلف تقبيل طفلها، وقد طوق عنقها بذراعيه الصغيرتين قصد أن يكفكف ما يراه من الدموع المنحدرة على خديها.
ودامت الحال كذلك بضعة أشهر وروزه لا تعرف سلوا، فجفاها الرقاد ليلا، وضاقها الهم نهارا، بحيث لم تعد تكف عن البكاء إلا إذا حضر والدها، فتتكلف الابتسام رحمة به، إذ لحظت أنه شاعر بفرط حزنها، يتألم لآلامها، وينتعش لابتسامها.
Shafi da ba'a sani ba