ولبثت روزه في المدرسة سنة أخرى بعد خروج صديقتها، كانت فيها أليفة الوحشة والانقباض، ولم تكن ماري تهمل زيارتها كلما وجدت لذلك سبيلا.
ولما انتهى العام، وأتى الذي تفارق فيه الفتيات المدرسة، ودعت روزه رفيقاتها ومعلماتها وخرجت إلى حيث ينتظرها والدها، وكان قد حضر منذ أيام لمشاهدتها والعودة بها إلى مصر، فما كادت تجتمع به حتى رأت صديقتها ماري مقبلة، وبرفقتها شاب لم تسبق معرفة به، فأسرعت نحوها، وضمتها بلهفة، وقابلت ماري مثل ذلك، فتعانقتا، بينما كان والد روزه والفتى واقفين ينظران إليهما باسمين، وقد انحنيا لبعضهما إشارة للسلام، وبعد أن ارتوى غليل شوق الحبيبتين، تقدمت ماري إلى والد صديقتها وصافحته، ثم أشارت نحو رفيقتها وقالت: أعرفكما بأخي فريد، فنظرا إليه باسمين وبادلاه التحية، وقد غلب الحياء على روزه وتوارد الدم إلى وجنتيها، فغضت أبصارها، ومالت نحو صديقتها تحدثها، وجلس الرجلان إلى جانب يتبادلان الحديث.
وبعد قليل من الزمن نهضت ماري ودعت روزه ووالدها واسمه يوسف روفائيل لزيارتها، وساعدها أخوها بالإلحاح عليهما فأجابا دعوتهما، وسار الجميع إلى منزل حبيب الذي أحسن استقبالهما، ورأى يوسف من لطف معاشرة تلك الأسرة ما قيده بمودتها.
وقد شعر فريد بجاذب يجذب فؤاده نحو روزه، فما فتئ ينظر إليها ويحادثها محاولا التقرب منها، أما هي فكانت مشغولة عنه بصديقتها، والحزن يتقسم فؤادها كلما خطر لها فكر السفر ووجوب مفارقتها، فلم تبال به ولا وجد رسول عينيه سبيلا إلى قلبها الخالي.
وكانت ماري أشجع منها قلبا في موقف الوداع، وأكثر جلدا على احتمال تأثير الفراق، فألوت عليها تقبلها وتمسح دموعها، ثم أعلمتها بأنها لا تغيب عنها طويلا، فإنهم قد صمموا على السفر إلى مصر قريبا، إذ لم يبق ما يوجب بقاءهم في باريز، فصفقت روزه طربا واقترحت عليهم السفر معا.
وبعد المفاوضة في هذا الموضوع قر رأي الأسرتين على السفر معا بعد أسبوع، ولما كان ليوسف بعض أشغاله في مارسيليا تتعلق بمحله التجاري في مصر، فقد اضطر أن يسافر مع ابنته في اليوم الثاني إلى تلك المدينة ليقضي مهمته، منتظرا وصول حبيب وولديه في نهاية الأسبوع.
الفصل التاسع
السفر
ودع الجميع بعضهم بعضا، وذهب المسافران إلى المنزل الذي كان فيه يوسف، فباتا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي أخذا أمتعتهما وسارا إلى محطة السكة الحديد، فدخلا عربة، وجلسا ينتظران مسير القطار.
وإنهما لكذلك، إذ دخل عليهما شاب جميل الطلعة، وحسن البزة، يظهر من ملامحه أنه شرقي فانحنى أمامهما باحتشام، ثم أخذ لنفسه مكانا في إحدى زوايا العربة، ولما سار القطار أخرج من جيبه جريدة، وجعل يطالع فيها حتى إذا استقر به المقام وأتى على الصفحة الأولى جعل يقلبها بين يديه، وعيناه تنظران إلى رفيقيه خلسة، فآنس في الفتاة جمالا باهرا وأجفانا ساحرة أسرت لبه وجذبت أبصاره، ولكنه ما عتم أن نكس هيبة، وعاد إلى جريدته وهو ينظر إليها من طرف خفي، أما هي فنهضت وسارت نحو النافذة تسرح بصرها في تلك السهول الشاسعة والمروج الخضراء، وقد كسا غصن قامتها ثوب بسيط الزي محكم الوضع، وغطت قسما من شعرها الحريري قبعة من القش خالية من الزخرف فأتبعها بصره، وهو يتأمل ذلك الهيكل الممتلئ والأعضاء المتناسبة، فرآها وقد حاولت إقفال زجاج النافذة للريح التي كانت تمر على محياها بقوة فتؤثر في مقلتيها الجميلتين بما تحمله من ذرات الغبار، وقد عصاها إتمام مرغوبها فأسرع إليها مستأذنا وأقفل النافذة عنها، وعاد إلى مكانه بعد أن فاز منها بابتسامة شكر جزاء صنيعه، وبقي القطار سائرا والسكوت مخيما حول هؤلاء الثلاثة مدة من الزمن، وقد أخذت سيماء الملل تظهر في ملامح المسافرين.
Shafi da ba'a sani ba