أما المذكرة الثانية فهي تختص بالأجانب وببعض الامتيازات الدولية. فالعراق يضمن للأجانب حرية الضمير والعبادة، اللهم إلا إذا كانت تخالف الآداب العامة، وتخل بالنظام. ويرحب بالمرسلين من أي دين كانوا ومن أي طائفة . ويمهد سبيل العمل للإرساليات الثقافية والدينية والطبية. ويتعهد أن يعامل رعايا الحكومات التي هي من عصبة الأمم معاملة أكثر الأمم تفضيلا لديه - بشرط أن تعامله بالمثل - لمدة عشر سنوات من تاريخ دخوله العصبة.
إن بعض الامتيازات، كالمدارس الإرسالية والطائفية، قد لا تتفق ومساعي الدولة الفتية في توحيد وتوطيد قوميتها. وهي تعرقل في الأخص مسعاها في سبيل القضية العربية الكبرى.
إذن موقف الوطنيين في هذه المسألة هو موقف سديد وطيد. وهم فيه موفقون، في الحكومة كانوا أو في المعارضة، بزعامة نوري أو بزعامة ياسين. بل قد تكون الحكومة هي السابقة، فتسعى لإلغاء هذه الامتيازات أو بعضها، عاجلا أو آجلا، عملا بسنة التطور، ووفقا لاستقلال العراق ورقيه المستمر.
عثرات التعليم الوطني
كان للسر آرنلد ولسون، الحاكم المدني بالنيابة في بداءة الاحتلال، آراء سياسية أدى العمل بها إلى الثورة. وكان له في التعليم آراء أقل ما يقال فيها: إنها مثل آرائه السياسية، رجعية استعمارية. فقد جاء في كتابه «تنازع الولاء» أن العراق لا يصير أهلا للحرية «إلا إذا أشرب المبادئ المسيحية.» هي سياسة قديمة ذهبت مع من ذهبوا في الحرب العظمى. ولكن بعض السياسيين والمتدينين، مثل السر آرنلد، ظلوا متمسكين بأذيالها، فقد حاول الحاكم المدني في بداءة الاحتلال أن يحييها ويعززها بوساطة التعليم في مدارس الأقليات.
وما أعجب تلك الأقليات، القومية والدينية، المسيحية وغير المسيحية، التي كان رؤساؤها يحومون حوله، ويزيدون بكربته في ما يدعون ويطلبون. بيد أنه كان يمالئهم ويجاملهم جميعا، من بطارقة النصارى - الكلدان والسريان والآشوريين والأرمن - إلى رؤساء اليزيديين، ومن أغاوات الأكراد إلى المرسلين والمبشرين، المقيمين والزائرين.
لقد أفسحت حكومة الاحتلال المجال للمدارس الطائفية، وعززتها، وأغدقت عليها. بل قد أعطت هذه المدارس، من الامتيازات، فوق المساعدات المالية، ما لم تكن تحلم به عهد الأتراك. فقد كانت إدارتها بيد رؤساء الطوائف، وكان مديروها في الأغلب من رجال الدين، وكان برنامجها يقرر باتفاق رؤساء الطوائف ومديرية المعارف.
استمرت هذه الحال بضع سنوات، فازدادت المدارس الطائفية، وهي تدعى في العراق المدارس الأهلية، وأمسى عددها مقدار نصف عدد المدارس الرسمية؛ أي مدارس الحكومة. فاضطربت مديرية المعارف، وحارت في أمر تلك المدارس الشاذة في إدارتها، وما اهتدت في بادئ الأمر إلى الخطة اللازمة لإصلاحها.
فكرت مديرية المعارف، ثم تشجعت، فأقدمت على العمل الذي رأت فيه العدل والمساواة؛ وذلك أنها خيرت رؤساء تلك المدارس بين أن تكون مدارسهم إما كمدارس الأقليات، وإما كمدارس الحكومة. فتعامل في الحال الأولى معاملة مدارس الأقليات، وتمنح المنح المالية ذاتها، وتخضع، في الحال الثانية، للقوانين والنظم التي تختص بمدارس الحكومة، دون أن تفقد حق اختيار المعلمين لتعليم الطلبة دين أجدادهم.
قد اختار الرؤساء الحال الثانية، إلا القليل منهم، فاستمروا يطالبون بحقوق مدارسهم المستقلة، واستمروا يحتجون، فآنسوا في بعض المتدينين السياسيين، أمثال السر آرنلد ولسون، التشجيع والمؤازرة، فراحوا يبثون دعواهم في أوروبا، فتجاوبت مجسمة في بعض الصحف هناك. العراق يحرم المسيحيين حقوقهم - العراق يفرض على المدارس المسيحية التعليم الإسلامي! ولكن حكومة العراق قالت لأصدقاء أولئك الرؤساء وأنصارهم الأوروبيين والأميركيين، وأكدت لهم، أنها تمنح أبناء كل طائفة حق إنشاء مدارس طائفية، وتوليهم إدارتها، بشرط أن يقوموا هم بكل نفقاتها. فأبى الرؤساء مكابرين.
Shafi da ba'a sani ba