وما هذه الردهة التي يعلو جدرانها الخشب المحفور المدهون أشكالا نباتية، وهندسية، المزين سقفها بالإطارات الذهبية المرصعة بالمرايا، القائم في نوافذها الزجاج الملون تقيه الشعريات الدقيقة الصنع، ما هذه بردهة تركية أو سلجوقية أو بويهية.
وما هذا الإيوان، وقد تكاثفت فيه، وتداعت لقدمها، الصناعات الثلاث - صناعة الخشب، وصناعة الزجاج، وصناعة النقش، الرسم والتلوين - ما هذا بإيوان أحد الولاة العثمانيين، ولا هو بإيوان كبير من آل بويه.
عفوا أيها القارئ! ما نقلني إلى عهد العباسيين أثر قديم في بغداد مثل هذا الأثر الجميل البهيج. وما هو كذلك بنقشه وزخرفه فقط، بل بشوارد هندسته، التي يظهر أنها بنت الصدف والحاجات. كأن الحجرات والأيونات قد نمت في هذه الدار، كما تنمو غصون الأشجار، أو صخرات المرجان في البحار.
هي حقا دار الخبايا والخفايا، دار الأسرار والأحلام، وعجائب الليالي والأيام. كنت وأنا أنتقل من حجرة إلى حجرة، ومن رواق إلى رواق، ومن ممر مظلم يطل على فراغ أظلم، أحس أني في شباك من السحر والاستغواء.
ها أنا ذا في بغداد هرون الرشيد، في بيت من تلك البيوت المسحورة، المقيدة بمشيئة الغرام العليا، المخلد ذكرها في ذلك الكتاب الأوحد، كتابنا العربي الخالد، الذي قال فيه أحد المتنطعين المتحذلقين من الأدباء الأقدمين، إنه كتاب قصص بليدة. وهو اليوم من آداب العالم الخالدة، يقرأه الإنكليزي والألماني والفرنسي والياباني كما يقرأه - أو كما ينبغي أن يقرأه - العربي، مكبرا فيه العبقرية المبتدعة الساحرة.
إن الغريب ليضيع في تلك الدار. لا يستطيع، وهو يتغلغل فيها، أن ينبذ من ذهنه ذكر الكتاب الشهير، وأماكن القصص البغدادية فيه. ولا عجب، في مثل هذه الدار جن أخو الحلاق وهو يطارد عاريا تلك اللعوب الحسناء، التي قادته من باب إلى باب وهي تعدو أمامه، حتى أمسى وهو في تلك الحال في السوق. وإلى مثل هذه الدار دخل الحمال بحمله، فإذا هو بين ثلاث حور ضجرات، يشتهين من يلاعبنه ويلاعبهن. ومن الباب الخفي، في مثل هذه الدار، كان يجيء الجني ليحمل المبنج والمبنجة إلى الظلمات الأبدية، أو إلى أحد فراديس الشوق والهيام ...
وخرجنا بعد التطواف من الإيوان، ونزلنا الدرج إلى صحن الدار، فإذا نحن في بغداد اليوم؛ حيث النسوة العاملات ينقين جوز العفص لمعامل الأصباغ.
الزيارة الثانية
قلما يرحب الكاتب بالنعمة التي تجيئه في ما يقطع عليه عمله، وقلما يدرك قيمتها. وإن أدركها، فهو لا يتوقف عن التأليف، إذا كان شراع الفكر منصوبا للريح، وكانت الريح مواثبة. أما الآن فالأمر بالتوقيف هو شبه عسكري، فلا تحول دونه ريح أو شراع.
من طالع كتابي «ملوك العرب» يذكر - ولا شك - الشيخ قسطنطين يني، رفيقي الكريم في رحلتي اليمانية، فقد كان يومئذ الملازم يني، وكانت له في الحجاز مساع وآمال عربية، ما أدرك قدرها الملك حسين - رحمه الله - لينتفع وينفع العرب بها. فأقلع الرفيق من الحجاز محوقلا، وبعد الأسفار، في الهادئ والمضطرب من البحار، رسا في بيروت، واعتنق مذهبا من المذاهب الاجتماعية القديمة، التي لا تزال محترمة، فأضحى زوجا، وأضحى أبا لابنتين، يحمل صورتهما وصورة أمهما في جيبه على الدوام. وهو ينظر إلى صديقه في الجبل، إلى أخيه الأمين، نظرة الحزين؛ لأنه لا يزال من المحرومين، الزوج والبنين. ولكنه محب لبنات أفكاره، معجب بها، وبنشاطه في التوليد، ويروح ناشرا، على عادته في النشر والتبشير، خبر المولود الجديد قبل أن يتكون في بطن الأوراق.
Shafi da ba'a sani ba