فقال السر وليم: «إنني أطلب الرحمة من الخالق لا من المخلوق، ولكنني أطلب منك أن تسمح لي بأحد خدمة الدين لإتمام فريضتي الدينية الأخيرة، فإن سمحت لي بذلك فكرم منك، وإلا فالله غفار الذنوب. وسواء مت الآن أو بعد ساعة فلي كلام إن تأذن لي أقوله لك فهو عندك ذو بال.» فقال له الملك: «قل ما بدا لك.» وكان يأمل أنه سيخبره شيئا عن العلم. فقال: «إن كلامي يتعلق بملك إنكلترا فلا يحسن أن يسمعه أحد غيره.» فالتفت الملك إلى نفيل وده فو وقال لهما: «اخرجا قليلا لنسمع ما يقول.» فخرج نفيل، وأما ده فو فقال: «أنا لا أخرج ولا أتركك مع هذا الاسكتسي الخائن.» فصرخ الملك قائلا: «أتخاف علينا يا ده فو من رجل واحد؟!» فقال ده فو: «لا تصرخ ولا تغتظ يا مولاي؛ فإني لا أترك رجلا مريضا عاريا مع رجل قوي مدجج بالسلاح.» فالتفت إليه السر وليم وقال: «لا بأس ببقائك هنا أيها البارون؛ فإنك رجل صادق أمين.» فقال له ده فو: «كان يمكنني أن أقول ذلك فيك قبل الآن بهنيهة من الزمان.» فلم يلتفت إليه السر وليم، بل التفت إلى الملك وقال له: «إن الملأ يأتمرون عليك أيها الملك وفي نيتهم أن ...»
ثم تلعثم لسانه فبلع ريقه وقال بصوت منخفض: «إن الأميرة جوليا ...» فصرخ الملك قائلا: «ما علاقة الأميرة جوليا بما نحن فيه؟!» فقال الفارس: «إن حلفاءك عازمون أن يشتروا هذا الصلح بخرق ناموس ملوك إنكلترا وتزويج الأميرة جوليا للسلطان صلاح الدين.»
وكان الملك ريكارد من الناس الذين ينظرون إلى من قال لا إلى ما قيل؛ فلا يعبد الله إذا أمره بذلك الشيطان، ولا يعد النصيحة نصيحة إذا سمعها من شخص لا ينظر منه النصح، فلما سمع اسم نسيبته من فم هذا الفارس وكان قد عرف طموح نفسه إليها وهو في مقدمة الفرسان، واستكبر ذلك منه ووجد عليه؛ حسب أن ذكره لها الآن ذنب لا يغتفر، وكان يتميز غيظا فقال له: «اخرس أيها اللعين، فوالله لأنزعن لسانك من فمك على ذكر هذا الاسم. واعلم أيها الخائن أنني رأيت طموح أبصارك ولم أعاملك على حسب ما تستحقه وقاحتك؛ لأنك خدعتنا يا معدن الخداع بأنك من قوم لهم حسب ونسب. والآن تجسر أن تتلفظ باسم ابنة عمنا بهاتين الشفتين المدنستين بذكر خيانتك! فماذا يعنيك إذا تزوجت بواحد من النصارى أو من المسلمين؟! ماذا يعنيك إذا صاهرت الأمانة والبسالة في شخص صلاح الدين وأنا بين قوم ملوكهم أرانب في النهار وثعالب في الليل وفرسانهم اتخذوا الخيانة مذهبا؟!»
فقال السر وليم: «لا يعنيني شيئا وقد دنا الأجل المحتوم، ولكن لو كنت الآن راكعا على النطع ما تأخرت عن إطلاعك على هذا الأمر الذي يمس شرفك وشرف الأميرة جوليا.»
فرفع الملك الفأس بيديه وصرخ قائلا: «لا تذكر اسمها بفمك.» فقال السر وليم: «أتمنعني من ذكر اسمها؟! لا وحق من بيده نفسي ، لأذكرن اسمها حتى آخر نسمة من حياتي، هاك رأسي فجرب به قوتك وانظر إن كنت تقدر أن تمنعني من ذكر اسمها.» وقبل أن يتم كلامه دنا البارون ده فو من الملك وقال: «قد حضرت الملكة وتريد المثول بين يديك.» فقال الملك لنفيل: «قل لها أن تنتظر قليلا.» ثم قال: «امض بهذا الخائن يا ده فو واخرج به من الباب الخلفي وكبله بالحديد تكبيلا، وأنت المطالب به فلا بد من قتله حالا، ولكن جئه بأحد القسوس قبل قتله؛ لأننا لا نريد أن نقتل جسده ونفسه، ولا تعره من علامات الشرف بل اقتله كما يقتل الفرسان؛ لأنه مهما كان ذنبه فجرأته هذه تشفع به.»
ففرح ده فو لأن الملك لم يتنازل إلى قتله بيده فمضى به سريعا، وأمر بعض الشرطة فنزعوا سلاحه وكبلوه بالحديد ثم قال له: «قد سمح الملك أن يقطع رأسك قطعا بالسيف بدون تعذيبك.» فقال الفارس: «أشكر فضله فإن هذا يخفف المصيبة على والدي.» ثم قال: «يا أبي. يا أبي.» فحزن البارون من هذا الكلام رغما عن قساوة طبعه وقال له: «قد سمح الملك أيضا أن ترى أحد القسوس قبل موتك، وأنا قد رأيت هنا أحد الرهبان الكرمليين وهو في انتظارك.» فقال: «علي به حالا؛ لأنني قد ودعت الحياة الدنيا وأنا الآن في انتظار الأخرى.» فقال البارون: «قد أمر الملك أيضا أن تستعد للموت حالا.» فقال الفارس: «ليكن ما أمر، أما أنا فلا أسترحم أحدا من البشر ولا أطلب تأخير الحكم.»
وحينئذ هم البارون بالخروج، ولما بلغ باب الخيمة التفت إلى السر وليم فرآه شاخصا نحو السماء، ولم يكن هذا البارون من الذين تؤثر فيهم المناظر المحزنة، ولكنه تأثر من رؤيته فعاد إليه وقبض على يده والقيد فيها وقال له: «إنك لم تزل في عنفوان الشباب، ولم يزل أبوك حيا، وأنا تركت ابني في بلادي وكنت أمس أود أن يشب فارسا مثلك. أفلا يمكن أن أفعل شيئا من أجلك؟» فقال الفارس: «كلا، لأنني أهملت واجباتي ولا أنتظر الآن إلا السياف.» فقال البارون: «ليتني حرست العلم بنفسي، ولكن ما هذا السر الخفي؟! فما أنت بجبان؛ لأنني لم أر أحدا يحمل حملاتك في حومة القتال. وما أنت بخائن؛ لأن الخائن لا يقابل الموت بهذه السكينة! فلا بد من أنك أغريت إغراء بصوت فتاة مستغيثة أو حبيبة عشيقة.
لا تخف ما فعلت بك الأشواق
واشرح هواك فكلنا عشاق
وكلنا سرنا في هذه الطريق قبلك، فأخبرني بجلية الأمر ولا تقنط من العفو؛ لأن الملك سريع الغضب قريب الرضى، أفلا تخبرني شيئا؟» فأدار الفارس وجهه عنه وقال: «كلا.» فقام ده فو وخرج وكأنه اغتاظ من نفسه لما بدا منه دلائل الشفقة.
Shafi da ba'a sani ba