ومرت الساعات عليه وهو يهدس في مثل ذلك ولا رفيق له ولا أنيس إلا كلبه الكبير الذي سبق الكلام عليه، وكأنه كان عارفا بغرض سيده من الإقامة هناك، فكان كلما سمع أصوات الحراس بين هزيع وهزيع يجيبهم بالنباح كأنه يقول إنه مستيقظ هو وصاحبه، ونحو نصف الليل نهض وجعل ينبح نباحا شديدا ويحاول الهجوم على جهة من الأكمة ثم يتأخر كأنه ينتظر أمر مولاه، فنادى السر وليم بأعلى صوته وقال: «من هذا؟» فسمع واحدا يقول له: «اربط كلبك وإلا امتنعت عن المجيء إليك.» فقال: «ومن تكون حتى تأتي إلي الآن؟» ثم أحدق بنظره فرأى شبحا يدب على جانب الأكمة ويقول: «اربط كلبك وإلا رميته بسهم يخطف أنفاسه.»
فقال السر وليم: «اترك السهم وتعال إلى نور القمر وإلا طعنتك طعنة تقضي عليك.» قال ذلك وأشرع رمحه، فتقدم الشبح إلى نور القمر وإذا به القزم الذي رآه في كنيسة عين جدي فعرفه، وتذكر تلك الليلة وما رآه فيها، فأشار إلى كلبه أن يصمت فصمت، وربض بجانب العلم وهو يهر. أما القزم فصعد على الأكمة وهو يلهث من شدة التعب ودنا من السر وليم وقال له: «أنسيت الأمير نكتبانس؟! فعلام لا تدنو لتحيتي؟»
فقال السر وليم: «كلا، ولكنني في موقف يمنعني من الترحب بك.» فقال القزم: «إننا نسامحك بشرط أن تأتي معنا حالا إلى الذين ينتظرونك.»
فقال السر وليم: «هذا لا أستطيعه؛ إذ لا بد من الإقامة ههنا حتى الصباح.» قال ذلك وجعل يمشي بجانب العلم. فاعترضه القزم وقال له: «اتبعني وإلا أمرتك أن تتبعني باسم التي لو أمرت الكواكب لخرت من السماء لها سجدا.» فانشغل بال السر وليم وقال في نفسه: «لا يمكن أن تكون الأميرة جوليا هي التي بعثت هذا الأحمق إلي!» ثم التفت إليه وقال له: «أظنك تعني تلك الظبية الهيفاء التي رأيتها معك في الكنيسة.» فقال له القزم: «أتظن أيها المتطاول أن زوجتنا وشريكتنا في الملك؛ الملكة كوانفرا تتنازل لكي تدعوك إلى حضرتها؟! معاذ الله، ولكن انظر هذه العلامة فإن كنت تعرفها فأنت في الخيار بين أن تطيع أمر صاحبتها أو تعصاه.» قال ذلك وأعطاه خاتم الياقوت الذي رآه في يده الأميرة جوليا، فبهت من رؤيته ووقف صامتا برهة من الزمان، ثم التفت إلى القزم وقال له: «أقسم عليك بأعظم الأقسام أن تخبرني ممن أخذت هذا الخاتم، ولماذا أتيت به إلى هنا، واحذر كيف تتكلم؛ لأن المقام ليس مقام هزل ومجون.»
فقال القزم: «لا يهمك أن تعرف أكثر من أن أميرة تأمرك لتأتي إليها فليس لنا إلا أن نأمرك باسم صاحبة هذا الخاتم أن تأتي معنا إليها، وكل تأخر منك يعد عليك ذنبا.»
فقال السر وليم: «اصدقني الخبر أيها العزيز، هل تعلم الأميرة بالمركز الذي أنا فيه، والأمر المناط بي؟ وهل تعلم أن حياتي، بل شرفي متعلقان بحراستي هذا العلم حتى الصباح؟ فهل تعلم ذلك وتدعوني لأمضي إليها؟ فلا بد من أنها أرادت أن تمزح معنا، ولا سيما لأنها اختارتك رسولا لها.»
فقال القزم: «ابق على ظنك.» ودار ظهره وهم بالانصراف وهو يقول: «سيان عندي أخلصت الحب لهذه الأميرة أم لم تخلصه.» فقال السر وليم: «اصبر قليلا وأجبني على هذا السؤال فقط، وهو هل الأميرة صاحبة هذا الخاتم قريبة منا؟»
فقال القزم: «ما الفرق بين كونها قريبة أو بعيدة؟ وهل الأمانة والإخلاص يتوقفان على المسافة؟ ولكنني أقول لك إن صاحبة الخاتم على رمية سهم منا.»
فنظر السر وليم في الخاتم طويلا ثم قال للقزم: «هل يطلب مني أن أبقى عندها وقتا طويلا؟» فقال القزم: «ما هو الوقت؟! فإني لا أراه ولا ألمسه ولا أسمعه، فما هو إلا وهم، أولا تعلم أن وقت الفارس الأمين هو الواجبات التي يعملها لأجل إلهه وحبيبته؟»
فقال السر وليم: «أصبت وأحسنت، فهل تدعوني الأميرة لعمل شيء من الواجبات؟ أولا يمكن تأخير ذلك إلى الصباح؟»
Shafi da ba'a sani ba