فغمغم وقد ابتسم ابتسامة دلت على الخجل والارتباك: عال ... شكرا لك ...
وارتدى ثيابه وانطلق إلى الخارج، ومضى إلى حديقة صولت حيث اجتمع ببعض الزملاء من الموظفين، وشرب كوبة من عصير الليمون، ولبث ساعة بينهم يتحادثون هونا، ثم غادر المكان، تاركا قدميه للطريق ينقله من شارع إلى شارع مستسلما للذة المشي، فذكر الليلة الماضية فعبس وجهه، وهاله ما بثته في نفسه من مشاعر الألم واليأس، وما أشاعته فيها من أفكار سود وخواطر ضعف واستكانة، وتولاه خجل لما اعتوره من خور في الجسم والنفس، وقال لنفسه: «لقد ظفرت حتى الآن بفضل حرية عقلي وقوة إرادتي وتلك الحكمة العالية: طظ ... فلا يجوز أن أفرط في كنز من كنوزي الغالية!» ... أجل، هنالك وظيفة سامية وطموح وجاه وخمر ونساء ومال وطعام وترف، فكيف يسمح بأن ينغص عليه هذه اللذات أب مشلول، وخواطر مرض، وغيرة جنونية؟! وسرعان ما استرد نشاطه وحيويته، وعقليته الصارمة الساخرة، واستقبل الحياة مرة أخرى بجسارته المعهودة وطموحه الذي لا يعرف الحدود، وبدا كل شيء كأنما يسير في مجراه الطبيعي، وكأن الحياة ستظل مذعنة لمنطقه أبد الدهر. وجاء يوم السبت وقد انتصف سبتمبر، فأثبتت له حوادثه أنه إذا كان يستطيع أن يتحكم في نفسه فإنه أعجز من أن يدعي القدرة على التحكم في الحوادث ...
كان السبت يوم قاسم بك فهمي، وكان محجوب يغادر الشقة في تمام السابعة مساء ليهيئ للرجل الخلوة المنشودة، ولكن كانت الساعة السادسة حين رن الجرس، ولم يكن الشاب يتوقع قدوم أحد في تلك الساعة، فدلف إلى الردهة الخارجية ليرى القادم، وفتحت الطاهية الباب فرآه كما أراد. لم يصدق عينيه، وجعل يحملق بذهول جنوني. رأى أباه، أباه دون غيره من البشر، وقد وقف الرجل على عتبة الباب متوكئا على عصاه، ملقيا إليه ببصر جامد مكفهر. سمر كلاهما في مكانه، وجمدت عيناهما لا تتحولان. وكابد محجوب في تلك اللحظة الرهيبة شعورا بالخوف والقنوط والهزيمة لم يشعر بمثله من قبل، ثم مزق الأب السكون الأليم فقال بصوت ضعيف ولكنه واضح ينم عن الألم والتهكم المرير: ألم تعرفني بعد ... لماذا لا تهرع إلى استقبالي؟!
وأفاق الشاب من ذهوله، فاقترب من أبيه في خطى متهالكة، ومد إليه يده، ولكن الرجل تجاهلها، فقال محجوب بارتباك وتلعثم: تفضل يا والدي ... تفضل ...
فتحرك الرجل متوكئا على عصاه يسير في خطوات ثقيلة، وقد تقوس ظهره، وتهدم بنيانه، وجعل يتفحص الأثاث والجدران بعين ملؤها الإعجاب الهازئ، ويقول: ما شاء الله ... ما شاء الله ... لشد ما تعاني يا بني مرارة البؤس والفقر؟!
فاشتد ارتباك محجوب وحصر، فما استطاع أن ينبس بكلمة. ها هو ذا والده يملأ الشقة بالفزع وعما قليل يأتي قاسم بك. حقيقتان لا يدري كيف يمكن أن يجتمعا، ومع ذلك فهما واقعتان لا محالة وإن أشفق من التفكير في عقباهما. ترى كيف يذكر غدا هذا اليوم الخطير؟! أيذكره كما يذكر مأزقا خطيرا نجا منه بأعجوبة؟ أم يذكره يوما أسود انهارت فيه آماله جميعا؟ ولم يستطع في انفعاله الأول أن يحسن التفكير ولا التدبير. وفتح عند ذاك باب حجرة النوم، وبرزت منه إحسان، ولعله بعثها للخروج ما سمعت من صوت وحركة غير عادية، فعجبت لوجود الشيخ الغريب، وألقت على هيئته الرثة نظرة إنكار. وحول عبد الدائم أفندي إليها رأسه، فلاحت على شفتيه ابتسامة حزينة، وقال بغير مبالاة ملتفتا إلى ابنه: زوجتك؟! (ثم حول رأسه إليها) أهلا بزوج ابني، أنا حموك يا عروس؟!
وحدجت إحسان في وجه زوجها فهالها جموده وارتباكه وكآبته، وآنست في عينيه نظرة منكسرة لم ترها من قبل، فلم تشك في صدق الرجل، ولم تكن تعلم شيئا عما بين الرجلين مما يستوجب الموقف الذي يقفه زوجها، ولكنها لم تتردد عن القيام بواجبها، فاقتربت من القادم ومدت له يدها باحترام، ودعته إلى الجلوس. وكان محجوب يرى ما يقع أمامه بعينيه الذاهلتين، ولكنه كان انتقل من ذهول سلبي إلى ذهول إيجابي، فجعل يستصرخ إرادته وعقله لينتشلاه من ورطته، وأخذ يفيق من وقع المباغتة فلم يرتح لوجود زوجه، وأومأ لها إيماءة خفية بالانسحاب، فلم تلبث أن تراجعت بلطف. وتوثب بجامع قوته ليمتلك زمام الموقف ويسترد عقله وإرادته، وأعانه على ذلك الخطر الذي يتهدده باقتراب موعد الوزير. أجل، ينبغي أن يخفي أباه عن عيني القادم عما قليل، ويعالج أمره في خلوة وهدوء. هو أبوه على أية حال، وليس شيطانا ولا قضاء وقدرا. وقال له بصوت رقيق لين: تفضل معي يا أبتي ...
وأعطاه ذراعه، فلم يرفض الرجل، وأدرك أنه يريد أن يحادثه على انفراد، فنهض بمعونته، وسار به محجوب إلى حجرة الاستقبال على يمين الداخل، ثم أغلق الباب، وكان عقله لا يني عن التفكير: ما الذي دله على مسكنه؟ ما الذي جاء به؟ وهل من المصادفات أن يجيء في يوم الوزير وقبل موعده بقليل؟ وشم في الجو رائحة مؤامرة نتنة، وتخايل لعينيه شبح الإخشيدي بوجهه المثلث وعينيه المستديرتين، فسرت في جسده رعدة، وامتلأت نفسه حنقا وكراهية. ترى هل أفشى سره كله؟ ... رباه أي كارثة ترصده؟ ... ولكن كلا ... أبوه لا يعلم بسره الخطير، وإلا ما استطاع - وهو الريفي الغيور - أن يتمالك أعصابه، ولكن البغيض جاء به في الوقت المناسب لعله أن يكتشف الحقيقة بنفسه لتكون الصدمة أفظع، وتفصد جبينه عرقا باردا ...
وصوب الرجل نحوه نظرة ملتهبة، وقال: لماذا تقف أمامي هكذا؟ لماذا لا ترحب بي؟ ... وكيف لا تهنئني بالشفاء؟
وسكت الرجل الغاضب حتى تمالك أنفاسه، ثم استدرك بلهجة ساخرة قاسية: لشد ما آلمني ما علمت من فقرك وبؤسك وسعيك عبثا في سبيل الحصول على وظيفة، فحفزني ذلك على ترك أمك وحدها في القناطر، والحضور بنفسي لمواساتك، أعانك الله يا مسكين!
Shafi da ba'a sani ba