وعند الظهر ملأت الوزارة إشاعة بأن الوزارة قدمت استقالتها بالفعل، وقال قائل: إنه اتصل ببولكلي بالتليفون فأكد له الخبر. وعمت الموظفين حركة عنيفة لا تظهر إلا إبان الاستقالات، فانطلقوا في الردهات يتحدثون بأصوات مرتفعة عن الوزراء الجدد. واضطرب الشاب أيما اضطراب، ولاح في عينيه الوجوم. وجاءه الساعي وأخبره بأن قاسم بك غادر الوزارة، فاتصل بالإخشيدي بالتليفون وسأله عن الجهة التي ذهب إليها البك، فأجابه بأنه لا يدري. وخاطب - بالتليفون - جمهرة من صحبه في الوزارات المختلفة وتلقى الإجابات: ماذا عندك من الأخبار يا فلان؟ الحالة حرجة. ما آخر الأخبار يا أستاذ؟ قطران. هل من جديد يا فلان؟ ضربوا الأعور على عينه. أسمعت الإشاعات الغريبة يا عزيزي؟ عن الوزارة؟ إلى الجحيم يا سيدي! وهكذا حتى أيقن أن الوزارة في النزع الأخير، ورن جرس تليفونه، وإذا بالمتكلم إحسان زوجه، فأوجس خيفة: هل جاءك النبأ؟ - الوزارة؟ - نعم، استقالت ... - كيف علمت هذا؟ ... - ملحق الجرائد ... - إذن ... - إني أكلمك لأطمئنك. - كيف؟ ... هذا كلام غير معقول ... - بل معقول جدا، سأحدثك بالتفصيل عند عودتك. اعلم الآن أن البك قال لي إن الوزارة ستتغير، أما العهد فباق كما كان ... - أمتأكدة أنت؟ - ولدي أخبار تسرك غير هذه ستعلمها حين عودتك ...
وأغلقت التليفون، فنهض الشاب من فوره وغادر الحجرة. وفي الطريق سمع باعة الصحف ينادون بأعلى أصواتهم على استقالة الوزارة، وآنس الاهتمام والسرور يجريان مع الهواء في كل مكان. ذهب الطاغية، غار سفاك الدماء، وانفك حبل الاستبداد عن أعناق المصرين أو كاد. لم يشاركه أحد سروره، ولولا ما بشرته به زوجه لانتحب باكيا. ووجد إحسان في انتظاره، فاستقبلته بابتسامة عذبة، وأقبلت عليه تحدثه بما عندها من أخبار، وأعادت على مسمعيه ما قالته في التليفون، ثم سألته: أتدري من وزيرك الجديد؟
فسألها متعجبا: من؟ - قاسم بك فهمي ...
رمقها بنظرة ذاهلة وقد تورد وجهه، وسألها: أقال لك هذا؟ - أجل ...
غمره شعور ارتياح وسرور، ولكنه لم يطمئن به طويلا، وما لبث أن نتف حاجبه الأيسر وهو يقول: وزيرا! ... ليته ظل كما كان! ... الوزارة تقليد لا تخليد، فمن لنا غدا؟ ...
ولكن ريبه لم يؤثر فيها؛ فقد خالت أن الوزارة آلت إليها هي، وقالت بإنكار: إنه الوزير، ألا تفهم؟ ... - بلى يا عزيزتي، هي فرصة سعيدة، بيد أن الوزارة قصيرة الأجل كالأحلام السعيدة، وسيستقيل غدا أو بعد غد، ونجد أنفسنا بلا نصير، أو تحت رحمة أعداء لا يرحمون ...!
فلم تحر جوابا، ومضت تنتقل إليها عدوى القلق حتى لعنته في سرها، وجعل الشاب يزن الأمور واحتمالاتها بفكر سريع نافذ، ثم قال: هذه هي فرصتنا الأخيرة؛ فإما نحسن انتهازها فنحن في عيشة راضية، وإما ندعها تفلت من أيدينا فالعاقبة الهوان.
والتقت عيناهما، وأدركت ما يرمي إليه، ولكنها انتظرت حتى يفصح عن رأيه. واستدرك محجوب قائلا: إذا استقال ونحن في مركز «معقول» فلن نأسف على ذهابه ...! واستأنف الكلام بعد صمت قليل: ينبغي أن ألحق بمكتبه ... - سكرتيرا له؟
فهز رأسه كأنه يقول: «هذا لا طائل تحته.» واستدرك: سكرتيره درجة سادسة؛ فلا فائدة فيها، أما مدير مكتبه فدرجة رابعة! - أيمكن القفز من السادسة إلى الرابعة؟ - يمكن ترقيتي إلى الخامسة خصما على الرابعة، وفي الكادر تأويلات تتسع لكل شيء، فما رأيك؟
وعضت على شفتيها لتخفي ابتسامة خيلاء، وكانت تدرك أن أية درجة يرقى إليها فكأنما ترقى إليها هي، ولم يداخلها شك في أن الدرجة الرابعة المرجوة تستطيع أن تحتفظ لها بمستوى الحياة الذي تتمتع به الآن، فبادلته شعوره بإخلاص، وتمتمت قائلة بصوت خفيض: لا أظنه يرفض لي رجاء ...
Shafi da ba'a sani ba