فسألها بدهشة: هل ترغبين في السفر حقا؟ - أجل ... لم لا؟
فقال وقد ابتسمت شفتاه: والبك؟ - عسى أن يكرمني بهذه الخدمة فيما بعد ...
وأدرك ما تعنيه بقولها «فيما بعد»، فهز كتفيه وقال: إذا فتر هواه يوما فلن يفعل شيئا مطلقا ...
والتقت عيناهما في نظرة ذات معنى، وأراد أن يستغل الفرصة السانحة أبعد استغلال، فقال: إنه الآن يذعن لرغباتك؛ فلا تفلتن من بين يديك هذه الفرصة الجميلة. الفرصة السعيدة لا تسنح في عمر مرتين. تناسي هذه الرغبة الفجائية في السفر؛ فهي رغبة خيالية، واعلمي أنك إذا فقدت حبه يوما فستلقي الحياة عابسة متجهمة. إذا لم نحسن الاستفادة من ظروفنا فسنضطر غدا إلى مغادرة حينا هذا إلى حي فقير. وليغلقن المجتمع الراقي أبوابه في وجوهنا، ولنكونن أضحوكة المتندرين، فينبغي أن نحتاط للمستقبل البعيد ...
وتفكر في كلامه قليلا، فوجد أنه يتكلم كما يتكلم القوادون بيسر وبغير مبالاة. وسر لمقدرته، وعدها فوزا مبينا لفلسفته وإرادته. وتفكرت إحسان في كلامه طويلا، فلم تلبث أن اقتنعت بما فيه من حكمة وبعد نظر ...
37
وجاء أول أغسطس، وقبض أول مرتب له من الحكومة، وهو مرتب لم يكن ليحلم به أيام الجوع؛ فمن عجب حقا أنه لم يسر به! توزعته المطامع، وتعددت رغائبه، فباتت حياته كالنار لا تشبع ولا تقنع، وذكره المرتب بوالديه اللذين ينتظران على لهفة نصيبهما من مرتبه، لا شك أن مكافأة والده نفدت، ولعله يبيع الآن أثاث البيت كما فعل هو في فبراير الماضي، وسيعجز حتما عن أداء إيجارة المسكن، وربما وجد والداه نفسيهما بلا مأوى وبلا طعام. ما عسى أن يفعل؟
كان حكيما بلا ريب حين قرر أن يخفي عن والده تعيينه، وقد احتاط للأمر فرجا الإخشيدي ألا يذيع الخبر في القناطر حتى لا يعلم به أحد قبل الوقت المناسب، ولكن متى يجيء الوقت المناسب؟ إن مرتبه لا يفي بتكاليف هذه الحياة الراقية؛ فهو يدرك قصوره عن الظهور كما ينبغي، فإذا تنازل لوالديه عن جنيهين أو ثلاتة اختل ميزانه، وافتضح أمره، وانهارت آماله! فكيف يواجه هذه الصعاب؟! وتولاه الغضب. كان دأبه الغضب إذا تحير أو ارتبك، كأنما يعتقد في قرارة نفسه أن لا شيء يستحق الحيرة أو الارتباك، ولكنه ذكر على رغمه والديه، وتماثلت له صورتهما؛ أبوه على فراش المرض - ولم تحرك هذه الصورة نفسه إلا بقدر يسير - وصورة أمه بعينيها الضعيفتين، وصمتها الرهيب، وإيمانها العميق به وبمستقبله. وقد حاول أن يهرب منها أو يطردها عن مخيلته فلم يفلح، فأجمع على أن يقهر ما توقظه في نفسه من عاطفة بقوة وصرامة. لم يكن حبه والديه دافعه الأول إلى التفكير فيهما، ولكن شعوره بالتبعية نحوهما كان الدافع، وفطن إلى هذه الحقيقة منذ البدء، فكانت من أسباب مضاعفة غضبه. ألا يزال يعلق بنفسه شيء من الأوهام؟ ما البنوة؟ أليست عادة سخيفة لاحقة بظاهرة الأسرة؟ بلى، وسيكفر بها كما كفر بأخوات لها من قبل، ولن يراعي إلا ذاته ومجده ولذته ... وتساءل: لماذا يعيشان؟ وما فائدتهما في هذه الحياة؟ وما معنى الحياة لهما؟ لماذا لا يموتان فيستريحان ويريحان؟ البر بالوالدين شر إذا عاق سعادة الابن، بل كل ما يعوق سعادة الفرد شر. هذا واضح بين، وهو يؤمن به إيمانا عميقا، ولكن ماذا هو فاعل؟ أيقطع كل صلة له بالقناطر ويترك والديه يلاقيان مصيرهما وحدهما؟ وكيف يدبر لهما النقود التي يحتاجان إليها؟ الواقع أنه لا يستطيع الإنفاق عليهما، والظاهر أنه لا يستطيع كذلك أن ينساهما! •••
وظل مغتما متفكرا حتى غادر الوزارة، ولم يكن بت في الأمر برأي وإن كان شعوره بأنانيته لا يغلب. وعند شارع قصر العيني التقى بالأستاذ أحمد بدير خارجا من إدارة الجريدة، وتصافحا بحرارة، وما لبث أن عاوده شعور الخوف الذي ينتابه كلما ذكر هذا الصديق المخيف. ومشيا جنبا إلى جنب يتحادثان كعادتهما القديمة في طريق الجامعة وحديقة الأورمان. وسأله الشاب الصحافي عن حاله وعن عمله وعن قاسم بك، وحدثه عن مشاق حياته الصحافية، وكأنما أراد محجوب أن يجامله فقال: الصحافة فن خطير، والوظيفة الحكومية بالنسبة إليها لهو ولعب ...
فقال أحمد بدير بسرور: صدقت أيها الصديق العزيز؛ ولذلك فإنه يدهشني أن يزهد شاب مثلنا في العمل الحكومي ويهجر وظيفة محترمة ليجاهد في ميدان الصحافة ...
Shafi da ba'a sani ba