ولم تكن الصداقة يوما بالشيء الذي يحرص عليه، ولكنه يشعر بالغربة والوحدة، وبأنه في واد والدنيا كلها في واد. أجل، لم يرع صداقة إنسان، ولكن أكثر من إنسان رعى صداقته فهيأ له شعور الأنس بالناس، أما الآن فالخيوط الواهية التي تصله بالناس تنقصف واحدا إثر واحد، ويهوي هو إلى وحدة عميقة، ومن قبل كانت غرابة آرائه سببا فيما يعتريه الحين بعد الحين من شعور الوحشة، فلما جازف بتحقيق بعض آرائه تضاعف شعور الوحشة، وأحس أنه في واد والدنيا كلها في واد، وتساءل في جزع: كيف يطرد سحائب الوحشة عن صدره؟ ... ليس في عالمه فرد واحد يوده. هؤلاء الموظفون الذين يتصل بهم لا يقرون إلا نوعا من الزمالة الإجبارية ، وسالم الإخشيدي لا يبالي شيئا غير منفعته، فأين يجد الدواء؟ وألقى ببصره إلى جانبه فرأى الوجه النائم، وسمع التنفس المنتظم. أجل، هي العزاء، وهي السلوى، خلاصة ما بقي له من دنياه، ولو ظفر بها ما اشتكى شيئا. وحقيقة قلقه اليوم ليست ناجمة عن قطيعة مأمون له، بقدر ما هي ناجمة عن تذكر علي طه وهواه. غدا قلبه فريسة للغيرة، ولم يعد يؤمن بأن الأمر مجرد رفع الصمام عن خزانة البخار كما كان يحلو له أن يقول كلما سئل عن الحب أو المرأة. كان شعوره بالحاجة إلى زوجة عنيفا قويا؛ فلعله كان نتيجة للشعور بالوحشة، أو لعله كان سببا فيه. ولم يكن - حتى في حالته تلك - يؤمن بالحب كما عرفه علي طه، ولم يعرج ببصره إلى السماء قط، ولا حلم بالمثال والأوهام، بيد أنه شعر بحاجته إلى الفتاة كقوة مستبدة غشوم، لا تقع بمجرد بلوغ الجسد، ولكنها تطمع في أن تستبد كذلك برغبته وميوله وهواه، فتكون رغبة متبادلة، وحنينا متبادلا، وبغير ذلك لا يمكن أن يشعر بأنه بدد الوحشة وفاز بالعزاء. هذه القوة المستبدة الغشوم تهزأ بالعقول الراجحة والنفوس المتعجرفة والفلسفات الساخرة. وابتسم ابتسامة المتهكم، وجعل يقول تبا لهذه الغيرة الحقيرة ... ما جدوى غرور هذه الحياة إذا كانت الدنيا تفقد طعمها لمجرد إغضاءة من هذا الحيوان اللطيف؟ ... ولم تخف عنه حقيقة مشاعره الجديدة. لقد قبل الزواج بادئ الأمر على أنه مساومة نفعية، وأراد أن يتغلب على وضعه الشاذ بحريته المطلقة وطموحه اللانهائي، ولكنه يطمع الآن في أكثر من جسد زوجه، يطمع في عواطفها، ولو أن حظه كان جمعه بغير إحسان - الفتاة التي أحبها قديما - لربما كان الحال غير الحال. أما إحسان فلا يملك إلا أن يحبها. وقد تكدر صفوه بهذه الأفكار. رأى فيها نذيرا يهدد كيانه وحياته، وقال لنفسه محزونا: عسى أن تكون آثار مرض وقتي أحدثته الوحشة المخيفة. •••
وحين العصر جلسا معا في الشرفة يشربان القهوة، ولم يكن انقطع عن أفكاره لحظة واحدة حتى بدا تعبا قلقا، وجعل يتفرس في وجهها بعينيه الجاحظتين حتى لاحظت ذلك، كما لحظت تعبه وقلقه، وحدست أسباب ذلك، وظنت أنها ترجع جميعا لليلة أمس، فلم تنبس بكلمة، ولكنها ألقت عليه نظرة متسائلة، وأراد هو أن يشرح لها حالته فقال: لم أنم ظهرا ...
فسألته وهي تتظاهر بعدم المبالاة: ولمه؟ ...
ولكنه لم يجب سؤالها، وشعر بقوة تدفعه إلى اقتحام الغموض الذي يغشاه ويحيره، فثبت عليها عينيه وقال: أنت سر يجب أن أعرفه ...
فلاحت الدهشة في وجهها الجميل الذي لم يكن أفاق تماما من أثر النعاس، وتمتمت: سر! - أجل، يجدر بنا أن نتكاشف! ... - نتكاشف! ...
فلم يعبأ بدهشتها وحسبها تظاهرا، ثم قال: حياتك تثير في النفس أسئلة محيرة ...
فأغضت دون أن تتكلم وبدا على وجهها الوجوم، ولكن قوة مهما بلغت من الشدة لم تكن لتثنيه عما اعتزم، فقال: التكاشف في حالتنا لا يقدر بثمن، ينبغي أن يفهم كل منا صاحبه؛ لنستطيع أن نتعاون على ما فيه سعادة حياتنا المشتركة. اذكري دائما أننا شريكان، وأن كل شيء ما خلا هذه الشركة زائل ...
فأخذت آخر رشفة من فنجان القهوة، وأعادته إلى نضد بينهما دون أن تنبس بكلمة أو تبدي رغبة في الكلام، فاستطرد متسائلا بجرأته: لماذا فعلت ما فعلت ...؟
فاحمر وجهها وقالت بحدة: ولماذا قبلت؟ ...
فقال بسرعة وبلهجة لينة توحي بالاعتذار: أنا لا أحاسبك، ولكني أريد أن أفهم ... لماذا؟ ... ألم ...؟
Shafi da ba'a sani ba