وجال ببصره مرة أخرى فرأى تحية حمديس! رآها تراقص شابا جميلا مفتول العضلات، له طول مأمون رضوان، ومتانة بنيان علي طه، فشعر أنه - الشاب - يستطيع أن يقبره بضربة واحدة، وتجهم وجهه، وسأل أحمد بدير عنه، فقال: الشاب وكيل نيابة، وأحد أبطال التنس المعدودين ...
وتنهد محجوب، ولو أمكنه - في تلك اللحظة - أن يصير عظيما ولو بجريمة ترمي به إلى حبال المشنقة لما تردد! ما الذي منع من أن يكون أحد هؤلاء الشبان؟! الدنيا جميعا! القوى الكونية التي خلقت التاريخ، وصنعت الطبقات، وقسمت الحظ، وجعلت عبد الدائم أفندي أباه، والقناطر مسقط رأسه. وهنا سمع أحمد بدير يهمس إليه متعجلا: «انظر إلى الشرفة.» وأدار رأسه إلى داخل الشرفة، فرأى سيدة تكاد تخفي وجهها بمروحة من ريش النعام، وعلى يدها ينحني رجل متقدم في السن، فلما استوى واقفا عرفه من الصورة التي تنشرها له الجرائد من آن لآخر. قال أحمد بدير: هذه حرم أنيس بك إبراهيم، والباشا من المعجبين بها، ويقال إنها تسعى لمنح زوجها الباشوية!
وكفت الموسيقى، وهرع كثيرون إلى الشرفات والحديقة، فتحول الشابان إلى الشرفة، دخلا معا. قال أحمد بدير: في أول عهدي بحياة المجتمعات كان يكلفني موقفنا هذا عناء ما بعده عناء؛ كنت إخال الناس جميعا وكأن لا عمل لهم إلا تفحصي من الرأس إلى القدم. وأنت؟
فذكر محجوب ملابسه، ووجهه الذابل الشاحب، فتصاعد الدم إلى خديه، ولكن سرعان ما استعدى جسارته واستهانته، فقال بصوت هادئ: في موقفنا هذا يداخلني شعور بأني رجل يجول بين ماشية!
ولم يكد يتم كلامه حتى وجد نفسه أمام حمديس بك، وجها لوجه، وخفق قلبه بعنف، ونظر إليه نظرة حاول ما استطاع أن ينقيها من آي الخوف والاضطراب، وتساءل: ترى كيف يواجهني؟ ... ما عسى أن يقول؟ ما عسى أن يفعل؟ ... أما حمديس بك فقد عرفه، ولاحت في وجهه ابتسامة، ومد له يده قائلا: كيف حالك يا محجوب؟
وتصافحا، وافترقا بسلام! ... وتولته الدهشة ... إذن أخفت تحية الأمر! ... ولم يدر له هذا بخلد، وتنبه إلى أحمد بدير يسأله للمرة الثانية: أتعرف حمديس بك؟
فأجابه بزهو: طبعا ... طبعا. ابن عم والدتي! - وكيف لم تحدثنا عن هذه القرابة العظيمة؟
فأجابه محجوب بنفس اللهجة، وكان لا يزال متأثرا بسرور النجاة: طظ! ...
وهبطا الأدراج إلى الحديقة، ومضت عيناه تبحثان عن سالم الإخشيدي، ومتى يقدمه إلى السيدة؟ ... وهل من فائدة ترجى؟ ... ومر بجماعات النساء والرجال، وشاهد نخبة من الرجال المعروفين، منهم المتحفظون، ومنهم من أطلقوا لأنفسهم العنان. ولفت نظره شخص غريب المنظر، ضخم الجسم في غير تناسق، مكرش، كأنه مادة حيوانية لم تسو بعد، يمشي منفرج الساقين كأنه ذو داء، بيد أنه بدا أثيرا محبوبا مكرما، يحادث العظام بغير كلفة، ويمازحهم ويعلو صوته بينهم بغير مبالاة، ويقهقه عاليا. وعجب محجوب لشأنه، وسأله صاحبه عنه قائلا: ومن هذا أيها العارف بأمر الناس؟
فضحك أحمد بدير وقال: كيف لا تعرفه؟ ... عزوز ضارم. كان يوما موظفا محترما، ثم اضطر إلى الاستقالة لأسباب خلقية، فاشتغل بالأعمال الحرة، وعرفه أناس من ذوي النفوذ، فأعيد إلى الخدمة وسار قدما ... ولكنه لم يهجر أعماله الحرة! - وكيف يجمع بين الاثنين؟ - عمله الحر شقته الأنيقة، فيها مائدة للقمار، وفيها الحسان الكواعب الحور! ...
Shafi da ba'a sani ba