وناط أمله بالعبارة الأخيرة «ساءت الحال»، فاسترق إلى البك النظر على أثر النطق بها، ولكنه لم يجد لها أثرا يذكر، وقال البك دون أن تتغير ملامح وجهه الباردة: أمر محزن، أرجو أن تبلغه تحياتي، وأنت يا محجوب هل انتهيت من الدراسة؟
وأحنقه تغير مجرى الحديث، وأثاره برود محدثه، ولكنه لم يجد بدا من أن يجيبه قائلا: امتحان الليسانس في مايو القادم. - عظيم ... مبارك مقدما ...
ثم نهض وهو يقول: آسف جدا أن أتركك الآن؛ لأني على موعد هام.
فنهض الشاب قانطا حانقا يلعن في سره المقابلة التي لم تستغرق دقيقتين بعد فراق خمسة عشر عاما! ألم يدرك الباعث الذي رمى به إلى بيته؟ ألم تدله «ساءت الحال» على ما جاء من أجله؟! وتبعه إلى الخارج في حيرة شديدة، هل يمسك بذراعه ويهتف به: «إني فقير معدم وفي شدة الحاجة إلى معونتك، فمد إلي يدك!» وتوثب للعمل مجازفا بكل شيء، ولكنه رأى على بعد قريب فتاة شابة وفتى يافعا يرقيان السلم في هدوء، فانهار توثبه وجمد بصره على القادمين. عرف تحية من النظرة الأولى على رغم التفاوت الكبير بين الصورة الماثلة للحسن والصورة الثاوية في الذاكرة، وعرف من أوجه الشبه بينها وبين الفتى أنه شقيقها. نسي عزمته، وانقلب إلى حالة من الجمود ... والكبرياء، ونظر البك إلى ابنيه مبتسما، ثم أومأ إلى محجوب قائلا: الأستاذ محجوب قريبي ... تحية ابنتي، وشقيقها فاضل.
وتصافحوا، وقال محجوب مبتسما: إني أذكرهما جيدا.
فقال البك وهو يتحرك نحو السيارة التي تنتظره: إذن امكث معهما بعض الوقت.
هل يمكث معهما؟ وتبادلوا النظرات في تطلع وابتسام، أما فاضل فشاب جميل نبيل المنظر، فكرهه من النظرة الأولى؛ لأناقته وجماله ونبله، وأما تحية ففتاة حسناء فائقة الحسن، ربما كانت إحسان شحاتة أفتن منها حسنا، ولكن تحية مثال كامل للتعبير عن الأناقة والكبرياء، وأنموذج حي للأرستقراطية، فسرعان ما بهرت حواسه، وسرعان ما وجد فيها الرمز الحي للحياة العالية التي يتآكل قلبه حسرة عليها، وقد سعرت عواطفه وهيجت طموحه، بيد أنها لم تثر شهوته كما فعلت إحسان، ولا أيقظت بنفسه عاطفة سامية؛ فلا عهد له بالعواطف السامية، ولكن حركت به إعجابا مقرونا بالحنق، ورغبة ممتزجة بالتحدي؛ فشعر في أعماقه بنزوع إلى السيطرة عليها والبطش بها! وقر عزمه في الحال على أن يمكث معهما! وجلس ثلاثتهم في الثوى الفخم، وأيقن أنه لن تخفى عليهما رثاثة هيئته، ولكنه تلقى هذه الحقيقة بالاستهانة. والواقع أنه كان يتمتع بقدرة عجيبة على قهر الحياء والارتباك، وعلى الادراع باستهانة لا تعرف الحدود! وقال فاضل مبتسما: هل تذكرنا حقا يا أستاذ؟
فقال محجوب بهدوء: عشنا معا في بلدة واحدة منذ خمسة عشر عاما، كان البك مهندسا بالقناطر، وكنا نلعب معا في «حديقة» بيتنا.
فقال له الشاب بدهشة: لا أذكر شيئا عن هذا العهد.
وقالت تحية بصوت مهذب كمنظرها سواء: ولا أنا تقريبا ...
Shafi da ba'a sani ba