ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى وجد نفسه أمام البيت الصغير الذي ولد فيه؛ بيت من طابق واحد، يتقدمه فناء ترابي مسور بدرابزين خشبي، يدل مظهره على البساطة والتقشف.
وكان يواجه المحطة في الجانب الآخر من الطريق، ويطل سطحه على الحقول فيما وراء السكة الحديدية، وبدا البيت مظلما غير بصيص نور يلوح من خصاص نافذة أبيه، فخفق قلبه خفقانا متداركا، وصرخ به الخوف والرجاء، واجتاز الفناء إلى المدخل وطرقه بخفة، فسمع وقع قبقاب، وعرف صاحبته وفتح الباب، وبدا شبحها وراءه، فأقبل نحوها قائلا: مساء الخير يا أماه.
فسمع صوتا متنهدا: «أنت!» ثم أخذت يده بين يديها، وقالت بنفس الصوت المتعب: كيف أنت يا بني؟ حدثني قلبي بأنك الطارق.
وكان الدهليز مظلما فلم يتبين ملامح وجهها، فرد الباب وهو يتساءل بلهفة: أماه ... ماذا حدث؟ ... كيف حال أبي؟
فقالت المرأة بصوت محزون: ربنا يأخذ بيده.
ووضع لفافة الجلباب على خوان، ودخل الحجرة بقدمين محاذرتين، وسبقته عيناه إلى الراقد على الفراش، واقترب منه، وكان رأس الرجل مائلا نحو الجدار، غمغم بصوت خافت: مساء الخير يا أبي ... كيف حالك؟
ولم يبد على الأب أنه سمع حسا أو أدرك شيئا، فانحنت الأم على رأسه وقالت: محجوب يمسي عليك ...
واعتدل رأس الرجل ببطء، وتحرك جفناه، ثم أبرز يسراه، فأخذها محجوب بين يديه وقبلها، وبدا الرجل مريضا جدا، وبدت عيناه مظلمتين كأنهما تقطران من ماء آسن، وفمه معوجا. قال محجوب: أبي ... كيف أنت؟ ... لا حول ولا قوة إلا بالله ...
وثبت الرجل عينيه عليه، وتكلم بصوت متحشرج، متقطع المخارج، قائلا: لم يعاودني النطق إلا ظهر اليوم!
فارتاع محجوب وسأل أمه: هل عجز وقتا عن النطق؟
Shafi da ba'a sani ba