وذلك لأن النفس الناطقة خلقت في مبدأ الفطرة ، خالية من العقائد والأخلاق. واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في صدقه : يوجب أن يجعل الاعتقاد في حسن ذلك الشيء. ويكون الموجب : موجبا أن يجعل الاعتقاد متأكد الأثر.
إذا عرفت هذا ، فنقول : الإنسان إذا سمع في أول عمره ، ومبدأ صباه : أن المذهب الفلاني : مذهب حق حسن صواب مرغوب فيه. وأن ضده باطل غير مرغوب فيه. فقد ثبت وجوب تلك التصورات في نفسه ، خالية عن التصورات المضادة لتلك التصورات التي ذكرناها. لأن نفوس الصبيان خالية عن جميع التصورات. وذلك الاستماع يوجب حصول ذلك الاعتقاد الفاعل. وإذا لقي العامل الخالي عن العائق ، حصل الأثر لا محالة. فإذا تكرر ذلك التحسين طول عمره ، فقد تكرر ذلك الموجب. وتكرره يوجب أن يبلغ ذلك الاعتقاد في القوة ، إلى أقصى الغايات ، وأبلغ النهايات. فثبت : أن الإلف والعادة يوجبان تأكد العقائد والأخلاق.
السبب الثاني من الأسباب الخارجية : أن يكون تقرير ذلك المذهب مما يفيده رئاسة في الدنيا ، وتفوقا على الأقران. فهذا أيضا مما يوجب ميل قلبه إلى تلك العقائد والأخلاق. وذلك لأن النفوس مجبولة على حب الجاه والمال ، واللذة والسرور ، وعلى حب كل ما يكون وسيلة إلى حصول هذه الأمور. فإذا كان تقرير مذهب من المذاهب يفيده ذلك المطلوب مال قلبه إلى تقرير ذلك المذهب. وقد عرفت : أن التكرير سبب للتأكيد. فثبت : أن هذا الذي ذكرناه من جملة الأسباب التي توجب تأكد الاعتقاد في المذهب المخصوص ، والفعل المخصوص.
السبب الثالث من الأسباب الخارجية : أن الإنسان إذا مارس صناعة النظر والاستدلال فكل من كانت ممارسته لهذه الصناعة أكثر ، كان وقوفه على الحق أسهل. ثم إن التفاوت يقع في هذا الباب بحسب الكم. فإن بعضهم يكون أكثر استحضارا للمقدمات. وأما بحسب الكيف فأن يكون انفعال بعضهم من المقدمات الحاضرة ، إلى النتائج المستحضرة : أسهل. ولما كان التفاوت في هذين البابين ، مما يختلف بالأشد والأضعف ، والأقل والأكثر ، اختلافا غير مضبوط. لا جرم كان اختلاف الناس في الاستعداد لقبول المعارف اليقينية ، والأخلاق الفاضلة ، اختلافا غير مضبوط. واعلم : أن هذا السبب يوجب اختلاف الناس في العقائد من وجه آخر. وذلك لأن صاحب النظر والاستدلال ، قد ينتج فكره أن القول الفلاني حق صحيح. ولأجل أن ذلك كان من مستنبطات خاطره ، ومن نتائج فكره عظم حبه لذلك. وقد يبلغ ذلك الحب إلى حيث يمنعه عن التأمل في صحته وفساده. وقد تبلغ قوة تلك المحبة إلى أنه لو سمع حجة دالة على فساد تلك الحالة ، فإنه لا يفهمها ، ولا يقف على كيفيتها. كما قيل : «حبك الشيء يعمي ويصم» (1) ولما كان تفاوت الناس في مراتب هذه المحبة ، غير مضبوطة. لا جرم كان تفاوت
Shafi 52