صار ذلك الضد أولى بالوقوع. لكن بشرط أن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب. فلأجل أنه حصل الرجحان ، بسبب حصول تلك الداعية ، لا يلزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. ولأجل أن تلك الأولوية ، لما انتهت إلى حد الوجوب ، لم يلزم الجبر. وحصل الامتياز بين المؤثر الموجب بالذات ، وبين الفاعل بالاختيار. أما قوله : «إنه حال الاستواء ، لما كان ممتنع الوقوع ، كان حال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح ، وجب الراجح. ضرورة : أنه لا خروج عن النقيضين».
فنقول : هذا مغالطة. وذلك لأن الفعل كان معدوما. وعدمه كان مستمرا من الأزل إلى الأبد. والعدم المستمر لا يحتاج إلى المقتضى. فنقول : عند حصول الداعية المرجحة لجانب الوجود. الأولى دخوله في الوجود. وإن كان لا يمتنع بقاؤه على ذلك العدم الأصلي المستمر. ولا نقول : إن هذه القدرة إنما تترجح بسبب الداعية المرجوحة ، وهي داعية الترك. لأن بقاء المعدوم على عدمه الأصلي ، لا يحتاج إلى مرجح ، بل يكون استمراره على ما كان عليه ، لنفسه. وعلى هذا التقدير ، فقد زال المحال الذي ذكرتموه.
والجواب عن السؤال الأول : إننا نسلم : أنا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا الفعل : فعلنا. وإن شئنا الترك : تركنا. ولكنا لا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا أن نشأ الفعل : حصلت لنا مشيئة الفعل. وإن شئنا أن نشأ الترك : حصلت لنا مشيئة الترك. وإلا لعاد الكلام في تلك المشيئة. ويلزم افتقارها إلى مشيئة ثالثة. ويلزم التسلسل. بل نجد قطعا ويقينا من أنفسنا : أنه قد يحصل في قلبنا مشيئة الفعل ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها وقد يحصل مرة أخرى مشيئة الترك ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها ونجد أيضا : أنه إذا حصلت المشيئة الجازمة للفعل ، في قلوبنا ، فإنه يحصل الفعل لا محالة. وإذا حصلت المشيئة الجازمة للترك في قلوبنا حصل الترك. فإذا اعتبرنا هذه الأمور ، علمنا : أنه ليس حصول المشيئة فينا : بنا. وليس ترتب الفعل الحصول مشيئة الفعل : بنا ، بل هذه أمور مترتب بعضها على البعض. والمبدأ من خلق الله. فيكون الكل من الله. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الاعتبار الذي نجده من أنفسنا : من أدل الدلائل على أن الكل من الله ، وأن الإنسان مضطر في صورة مختار.
وأما السؤال الثاني : وهو طلب الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين المؤثرات الاختيارية. فنقول : هذا الفرق حاصل من وجهين :
الأول : إن المؤثرات الطبيعية ، دائمة مستمرة غير مغيرة. فالمؤثر في التسخين يبقى أبدا موصوفا بالوجه الذي لأجله كان موجبا للتسخين ، ولا يتغير. وكذا القول فيما يؤثر بالتبريد. بخلاف الأفعال الاختيارية. فإن الموجب للحركة بمنة : هو مجموع القدرة مع حصول الداعي إلى الحركة يسرة. وهذه الدواعي سريعة التبدل والتغير. فالقادر إذا حصلت في قلبه داعية
Shafi 43