Philosophy of Holidays and Wisdom of Islam - Part of 'Al-Mualami's Works'
فلسفة الأعياد وحكمة الإسلام - ضمن «آثار المعلمي»
Bincike
محمد عزير شمس
Mai Buga Littafi
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٤ هـ
Nau'ikan
الرسالة السابعة عشرة
فلسفة الأعياد وحِكمة الإسلام
17 / 523
الحمد لله ...
فلسفة الأعياد وحِكْمَة الإسلام
العيد في العرف العام: يوم مخصوص من العام، تحتفل به الأمة بمظاهر السرور، وأهمها الزينة، ولذلك يسمى أيضًا يوم الزينة؛ كما أخبر الله ﷿ عن كليمه ﵇ أنَّه قال لفرعون وقومه: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ [طه: ٥٩].
منشأ الأعياد
إنَّ بروز الأمة بمظاهر السرور والزينة يُعبِّر عن سرور عظيم عامّ حدث لها، والسرور العام إنَّما ينشأ عن نعمةٍ عظيمةٍ عامةٍ حدثت للأمة.
إذن فالعيد يوم مخصوص من السنة، تحدث فيه كل سنة نعمة عظيمة للأمة، تبعث في قلوب أبنائها سرورًا عظيمًا، يسوقهم بطبيعة الحال إلى الاجتماع على إظهار الزينة بأنواعها.
إذن فالعيد ناشئٌ عن سبب طبيعي ثابت.
لكنَّ هذه الحال وإن انطبقت على بعض الأعياد، كيوم وفاء النيل بمصر، فإن غالب الأعياد ليس كذلك.
فمن ذلك أنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ يوم استقلالها عيدًا.
ومن ذلك أول يوم من السَّنة؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ أول يوم من سنتها عيدًا.
فحدوث الاستقلال نعمة عظيمة على الأمة، ولكن اليوم الذي يقابله من
17 / 525
السنة الثانية والثالثة وهكذا لم يحدث فيه شيء.
وأول السَّنة التي ابتُدِئ بها التاريخ قد يكون يوم حدوث نعمةٍ، وقد يكون مبنيًّا على أمرٍ فلكي أو اصطلاحي.
فأقول: لا ريب أنَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال من كل سنة، ومثله أول السنة، لم تحدث فيه نعمةٌ عظيمةٌ، ولكن المفكِّرين من الأمم جعلوه عيدًا لأغراض سياسية.
فإذا ساغ لنا أن نعدَّ يوم وفاء النيل ــ مثلًا ــ عيدًا طبيعيًا، فلنعدَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال ــ مثلًا ــ عيدًا اصطلاحيًّا.
إلَاّ أنَّ ههنا فرقًا بين اليوم المقابل ليوم الاستقلال، وبين أول السنة في التواريخ التي ابتُدِئت بمجرَّد الاصطلاح.
فالأول وإن لم تحدث فيه نعمةٌ فإنها حدثت في مثله، وكما قيل: الشيء بالشيء يُذكَر، وليس الثاني كذلك.
ولكن لما كانت المثلية توجد في كل أسبوعٍ، وفي كل شهرٍ، وفي كل فصلٍ، وكان تذكُّر النِّعْمة لا يقتضي حدوث سرورٍ عظيمٍ يبعث على إظهار الزينة؛ لم يخرج اليوم المقابل [ص ٢] ليوم الاستقلال ــ مثلًا ــ من كونه عيدًا اصطلاحيًا.
* * * *
17 / 526
الأعياد الدينية
أمَّا الأديان التي عَبِثَتْ بها الأهواء فغالب أعيادها اصطلاحيٌّ، والبحث فيه يطول، والذي يهمُّنا هنا البحث عن الأعياد الثابتِ شرعُها عن الله ﵎، وإنَّما يتيسَّر لنا ذلك في دين الإسلام.
نظرية الإسلام في الأعياد
قد علمت مما تقدَّم أنَّ الأعياد على نوعين: طبيعي واصطلاحي.
فأمَّا ما يتعلَّق بالطبيعي فإنَّ الشريعة الإسلامية لم تنظر إلَّا إلى النِّعَم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين. والموجود من هذه النِّعَم متكرِّرًا كلَّ عام أمران:
الأول: تمام صيام شهر رمضان، والخروج من مشقَّة الصيام.
الثاني: تمام الحج، والخلاص من مشقة الإحرام.
وصيام شهر رمضان والحج من أركان الإسلام، ومن أعظم النِّعَم على المسلمين أن يتمَّ صيامهم ويتم حجُّهم.
فإن قيل: فإن الحجَّاج إنَّما هم طائفةٌ من المسلمين.
قلت: نعم، ولكن حج البيت كل سنة فرض كفاية على جميع المسلمين؛ فإذا قام به بعضهم فقد تمَّت النِّعْمة على الجميع بسقوط الإثم.
زِدْ على ذلك أنَّ تمكُّن المسلمين من إتمام الحج من مظاهر ظهور الإسلام واجتماع المسلمين؛ وذلك من أعظم النِّعَم عليهم.
17 / 527
وأظهر من ذلك: أنَّ من حِكَم شرع الحج اجتماعَ المسلمين، وكان ظاهرُ هذا وجوبَه على كل فرد منهم كل سنة. لأنَّه يُشَرع في الصلوات الخمس اجتماعُ أهل كل محلَّةٍ، وفي الجمعة اجتماع أهل كل مدينةٍ، وفي عيد الفطر اجتماع أهل كل مدينةٍ وما حولها؛ حتى النساء، بما فيه العواتق ذواتُ الخدور والحيَّض؛ كما في الحديث الصحيح (^١).
فما بعد ذلك إلَاّ اجتماع أهل قطر، وهذا أهمله الشارع اكتفاءً بالحج. فكان الظاهر أن يُشرَع في الحج اجتماع جميع المسلمين، ولكن لما كان في ذلك مشقةٌ عليهم، وضياعٌ لمصالحهم خفَّف الله عنهم.
ومن هنا يُفهَم ما صحَّ: أنَّ النَّبي ﵌ سُئِل عن وجوب الحج؛ أكلَّ سنةٍ؟ ــ يعني: على كل فردٍ ــ فقال: «لا، ولو قلتُ: نعم لوجبَتْ» (^٢).
فاكتفى الشرع بأن يحجَّ من أهل كل جهةٍ طائفةٌ، ثم هذه الطائفة تُبلِّغ مَنْ وراءها آثار الاجتماع في الحج. كما قال الله تعالى في الجهاد: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].
وكلَّف الذين لم يحجّوا باجتماع أهل كل بلد في بلدهم ليحصل بذلك ما يحصل من حضور الاجتماع الأعظم.
ومن جهة أخرى فالغالب أنَّ كل فردٍ من المسلمين يكون له قريب أو صديق في الحج، وتمام النِّعْمة على ذلك يوجب سرور هذا.
_________
(^١) أخرجه البخاري (٩٧٤) ومسلم (٨٩٠) من حديث أم عطية.
(^٢) أخرجه مسلم (١٣٣٧) من حديث أبي هريرة.
17 / 528
ومع ذلك شرع للمقيمين صيام تسع ذي الحجة، ولا سيَّما التاسع، وبتمامها تتم عليهم نعمة أخرى، وشرع لمن أراد التضحية منهم أن لا يحلق شعرًا، ولا يقُصَّ ظُفْرًا حتى يُضحِّي؛ كما جاء في الحديث (^١).
وشرع لهم في عيد الأضحى: أن لا يَطْعَموا شيئًا حتى يُصلُّوا العيد، وبعد صلاة العيد ينفكُّ عنهم قيدُ الإمساك عن القَرْض (^٢) وعن الأكل؛ وهذه نعمةٌ أخرى.
لم تكن الشريعة الإسلامية ــ وهي من وضع الحكيم العليم ﷿ ــ لتكتفي بهذا؛ بل نظرت إلى الأعمال التي ينبغي للمسلمين عملُها في عيدهم، فوجدت أنَّ تمام النِّعْمة كما يبعث المسلم ــ كغيره ــ على السرور طبعًا، والسرور يبعث على إظهار الزينة= فإنه يبعثه أيضًا على شكر المنعم ﷿.
لهذا اقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة. فالتكبير، والصلاة، وأداء الفطرة، والصدقة من الأضحية= عبادةٌ محضةٌ. والتنظُّف، والتطيُّب، ولبس الجديد، والاجتماع، والتقرُّب بالأضحية= تتضمَّن الأمرين.
أمَّا كونها عبادة فقد جاء في الحديث: «النَّظَافة من الإيمان» (^٣).
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٩٧٧) من حديث أم سلمة.
(^٢) أي استعمال المقراض لقصّ الشعر.
(^٣) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (٧٣١١) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (١/ ١٨٣) من حديث ابن مسعود بلفظ: «النظافة تدعو إلى الإيمان». ولا يصح، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٣٦): فيه إبراهيم بن حيان، قال ابن عدي: أحاديثه موضوعة. وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (١/ ٤٩، ١٢٥): سنده ضعيف جدًّا.
17 / 529
وجاء: أنَّ النَّبي ﵌ كان يحبّ الطِّيب (^١)، وأن الملائكة يحبُّون الطِّيب.
وجاء عنه ﵌ الندبُ إلى حسن اللباس، وقال: «إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (^٢).
وقال للِّذي أخبره أنَّه يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ورأسه دهينًا، ونعلاه حسنتين: «إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال» (^٣).
وعدم التنظُّف والتطيُّب يؤذي المجتمعين، واجتناب أذية الناس عبادةٌ.
والاجتماع الحسي باعث على الاجتماع المعنوي؛ [ص ٣] ولاسيَّما والمشروع أن يكون الإمام هو الأمير؛ فيخطب فيهم ببيان المصالح العامة التي ينبغي أن يتعاونوا عليها، ويمثل بصلاته بهم واقتدائهم به تقدُّمَه إياهم في طاعة الله ﷿، وتبَعَهم له في ذلك، أعني في مصالح الإسلام والمسلمين.
والتقرب بالأضحية ظاهر.
وأمَّا كون هذه الأشياء من الزينة ــ أعني ما يعمُّ التوسُّعَ في الأكل ونحوه ــ فظاهر.
_________
(^١) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي (٧/ ٦١) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: «حُبِّب إليَّ الطيبُ والنساء ...» وإسناده حسن.
(^٢) أخرجه الترمذي (٢٨٢٠) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.
(^٣) أخرجه مسلم (٩١) من حديث ابن مسعود.
17 / 530
بقي ما أبيح في العيد من اللهو؛ كالضرب بالدفِّ، واللعب بالسلاح، وهذا أيضًا مشتملٌ على الأمرين.
أمَّا كونه زينةً فظاهر.
وأمَّا أنَّ فيه عبادةً فلِمَا جاء عنه ﵌ أنَّه قال للحبشة ــ عندما كانوا يلعبون بحِرَابِهم ــ: «إيهِ بني أرفدةَ؛ لتعلم اليهود والنصارى أنَّ في ديننا فسحةً» (^١).
واللعب بالسلاح تدرُّبٌ على الجهاد، وأيضًا فإنَّ في إسعاف النفس ببعض حظوظها إجمامًا لها، وترويحًا عنها لتنشط للعبادات والأعمال المصلحية، ولاسيَّما وهي خارجةٌ من عمل شاقٍّ حالَ بينها وبين شهواتها؛ وهو الإحرام لمن حجَّ، وسرد الصيام في عِدَّة رمضان، وصيام تسع ذي الحجة لمن لم يحج، مع إمساكه عن الحلقِ وقصِّ الأظفار حتى يُضحِّي، وعن الطعام حتى يرجع من الصلاة، وأنت خبيرٌ أن اللهو إنَّما يحدث بعد ذلك.
هذه حكمة الإسلام في الأعياد، ولكن ــ يا للأسف ــ إن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عملَه على تلك المقاصد، ولا يكاد يُوجد من علمائهم من يُبيِّن لهم ذلك؛ فالله المستعان.
وكما رخَّص الشارع في بعض اللهو وغيره في العيدين، كذلك رخَّص فيها عند حدوث نعمةٍ عظمى؛ كالزواج، والختان، والقدوم من سفر؛ ولم
_________
(^١) أخرجه أحمد (٦/ ١١٦، ٢٣٣) والحميدي في «مسنده» (٢٥٤) من حديث عائشة. وإسناده حسن.
17 / 531
يُرخِّص في ذلك في مثل ذلك اليوم من الأسبوع، أو الشهر، أو السنة؛ لما علمت.
أمَّا الأعياد الاصطلاحية فلم تلتفت إليها الشريعة من حيث هي أعياد، وما كان فيها من أغراض سياسية أدرجته الشريعة في الأعياد الطبيعية ــ كما مرَّت الإشارة إليه ــ، أو في عبادة تخصُّه؛ كما في يوم الجمعة؛ كما يأتي. مع أنَّ في عيدَي الفطر والأضحى ما يفي بذلك؛ فعيد الفطر تذكار لنزول القرآن في رمضان؛ كما يأتي. وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه.
والعُرْف يقضي بأنَّ أمةً من الأمم لو جاهدت في سبيل استقلالها مثلًا، فانتصرت في عدة انتصارات= فإنَّما تجعل العيدَ اليومَ الذي تميَّز فيه نتيجة جهادها.
وهذا المعنى نفسه بالنسبة إلى الإسلام كافٍ في عيد الأضحى؛ كما يأتي. ولكن الشريعة نظرت إلى الأيام التي حدثت فيها نِعَمٌ عظمى عامة؛ فرأت أن المثلية تذكِّرُ بالنِّعَم كما مرَّ. وتذكُّر النِّعْمة، وإن لم يكفِ في البعث على إظهار الزينة= فإنه يكفي للبعث على الشكر. فشَرَعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، واختارت أقرب ما يكون من المثلية.
فإذا حدثت النِّعْمة في يومٍ عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، ولا تخرج عن هذا إلَاّ لمعنىً آخر؛ كما سيأتي في صيام عرفة ويوم عاشوراء.
وإذا حدثت النِّعْمة في شهرٍ عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة.
فمن الأول: يوم الجمعة؛ ففي «صحيح مسلمٍ» (^١) عن النَّبي ﵌: «خيرُ
_________
(^١) رقم (٨٥٤) عن أبي هريرة.
17 / 532
يومٍ طلعتْ عليه [الشمسُ] (^١) [ص ٤] يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تقوم الساعة إلَاّ في يوم الجمعة».
وخروج آدم ﵇ من الجنة نعمةٌ في حقِّنا؛ لأنَّه سبب وجودِنا. وقيام الساعة نعمةٌ على المؤمنين؛ لأنَّ فيه القضاءَ لهم على أعدائهم، والأخذَ لهم بحقوقهم، بل إدخالهم الجنة، وتجلِّي الرب ﷿ لهم.
ولما كانت هذه النِّعَم عامةً لجميع بني آدم شرع الله تعالى لهم جميعًا تخصيصَ هذا اليوم؛ ولكن اقتضت حكمته ﷿ أن لا يَدُلَّهم على يوم الجمعة من أول وهلةٍ؛ بل يأمرهم بتخصيص يومٍ من الأسبوع، ويدع تعيينه إلى اجتهادهم.
ففي الصحيحين (^٢) عن النَّبي: «نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة؛ بيدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناه من بعدِهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ــ يعني يوم الجمعة ــ فاختلفوا فيه، فهدانا الله إليه» الحديث.
وهداية هذه الأمة له: ما ثبت في السيرة وغيرها أنَّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النَّبي ﵌ اتفقوا ــ إمَّا بأمرٍ منه ﵌ أو باجتهادهم ــ على أن يخصِّصوا يومًا معيَّنًا من الأسبوع يجتمعون فيه لذكر الله تعالى والاتفاق على مصالح المسلمين؛ إذْ لا يتيسَّر لهم الاجتماع كلَّ يوم؛ لاشتغالهم بنخيلهم وتجارتهم، وغير ذلك من مصالح دنياهم، فأجمعوا على يوم الجمعة.
_________
(^١) سقطت من الأصل.
(^٢) البخاري (٨٧٦) ومسلم (٨٥٥) عن أبي هريرة.
17 / 533
وكانت صلاة الظهر يومئذٍ ركعتين؛ كما في الصحيحين (^١)، عن عائشة ﵂ قالت: «فُرِضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ﵌ ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَت صلاة السفر على الفريضة الأولى».
أقول: وتُرِكَت ظهر يوم الجمعة في حقّ المجتمعين الاجتماعَ المخصوص، كما هو ظاهر، وههنا مباحث علمية ليس هذا موضعها.
والمقصود: أن الله ﷿ شرع يوم الجمعة ما شرع من العبادة الزائدة على بقية الأيام؛ من الاجتماع، والخطبة، والغُسل، والسواك، والطيب، والتبكير إلى الجامع، وكثرة الصلاة قبل خروج الإمام= شكرًا له ﷿ على ما تقدَّم من النِّعَم وغيرها.
ومن الناس من يَعُدُّ يوم الجمعة عيدًا؛ لأنَّ كثيرًا مما شُرِع في العيد من التطيُّب والتنظُّف والاجتماع والخطبة، شُرِع فيه. ولأنَّه صحَّ النهي عن تخصيصه بصيام (^٢)؛ كما نَهَى عن صيام يوم العيد (^٣).
وليس هذا بظاهر.
أمَّا التطيُّب والتنظُّف فإنَّما شرعت فيه لحقوق المجتمعين؛ كما صحَّ أنَّ الصحابة كانوا أولًا يجتمعون، ومنهم من لم يغتسل ولم يتطيَّب، فيؤذي
_________
(^١) البخاري (٣٩٣٥) ومسلم (٦٨٥) عن عائشة.
(^٢) أخرجه البخاري (١٩٨٥) ومسلم (١١٤٤) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى.
(^٣) أخرجه البخاري (١٩٩١) ومسلم (٧٨٣) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى.
17 / 534
بعضهم بعضًا، فأُمِرُوا بذلك (^١).
وأمَّا الاجتماع والخطبة فأمر مصلحيٌّ لا يقتضي أن يُعَدَّ ذلك اليوم عيدًا.
وأمَّا النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام؛ فلو كان لأنَّه عيدٌ لنَهَى عن صيامه مطلقًا، وليس كذلك؛ وإنَّما نَهَى أن يُصام وحده، فلو صامه مع الخميس [ص ٥] أو مع السبت صحَّ؛ كما ثبت عنه ﵌ (^٢).
وههنا فائدةٌ يتعطَّش إليها القارئ، وإن كانت خارجةً عن الموضوع وهي حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيامٍ، وليله بقيام.
فأقول: قد قيل: لأنَّه عيدٌ، وقد تقدَّم ما فيه.
وقيل: لئلا يَضعُفَ بقيام ليلته وصيامه عن العبادات المشروعة فيه.
وهذا أيضًا باطلٌ؛ لجواز قيام ليلته لمن يريد قيام ليلة السبت، وصيامه لمن يريد صيام يوم السبت؛ كما تقدَّم. والضعف حاصلٌ هنا، وقيل، وقيل.
وعندي أنَّه ﵌ إنَّما نَهَى عن ذلك؛ لأنَّ الله ﷿ لم يشرع التخصيص بذلك. وربما يتوَّهم بعض الناس مشروعية التخصيص بذلك لما ليوم الجمعة من الفضيلة؛ فبيَّن ﵌ أنَّ فضيلة اليوم لا تقتضي مشروعية تَخصيصِه بجميع العبادات؛ بأن يكون لها فيه أجرٌ أعظم منها في سواه؛ وإنَّما يشرع التخصيص بالعبادة التي شرع الله تعالى التخصيص بها.
فيوم الجمعة بالنسبة إلى قيام ليلته وصيام نهاره بمنزلة يوم الثلاثاء في أنَّ الله ﷿ لم يشرع تخصيص كل منهما بذلك. فمن خصَّص أحدهما
_________
(^١) أخرجه البخاري (٩٠٣) ومسلم (٨٤٧) من حديث عائشة ﵂.
(^٢) في الحديث الذي خرجناه آنفا.
17 / 535
ظانًّا أنَّ أجر ذلك فيه أعظم من غيره فهو مبتدعٌ.
وإنَّما نصَّ النَّبي ﵌ على يوم الجمعة لأنَّه مظنَّة أن يتوهَّم الناس فيه زيادة الأجر لفضيلته. ولذلك أكَّد ﵌ النهي عن صيامه، حتى لمن لم يتعمَّد تخصيصَه التماسًا لزيادة الأجر.
ولم يقل ذلك في يوم الثلاثاء مثلًا؛ فلو صامه أحدنا وحدَه غيرَ متعمِّدٍ للتخصيص، وإنَّما وقع ذلك اتفاقًا، ما كان بذلك بأسٌ.
نعم، لما كان في الأعمال المشروعة في الجمعة ما فيه حظٌّ للنفس شرع الله تعالى للأمة صيام يوم الخميس؛ ليكون الصائم له مستحقًّا لما يكون في يوم الجمعة من حظِّ النفس. ولا ينافي ذلك ما جاء من حكمة استحباب صوم يوم الخميس؛ بأنَّه يومٌ تُعرَض فيه الأعمال (^١).
ومن ذلك يوم الاثنين؛ ففي «صحيح مسلم» (^٢) عن أبي قتادة قال: سُئل رسول الله ﵌ عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: «فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنزِل عليَّ».
فشرع الله تعالى للمسلمين صيام يوم الاثنين؛ شكرًا على هاتين النِّعَمتين العظيمتين: ولادة رسوله ﵌، وإنزال القرآن عليه (^٣).
_________
(^١) أخرجه الترمذي (٧٤٧) من حديث أبي هريرة، وفي سنده محمد بن رفاعة بن ثعلبة القرظي، لم يوثقه غير ابن حبان. ولكن للحديث شواهد منها حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه أبو داود (٢٤٣٦) والنسائي (٤/ ٢٠١، ٢٠٢)، وبمجموعهما يرتقي الحديث إلى الحسن.
(^٢) رقم (١١٦٢/ ١٩٨).
(^٣) في هامش (ص ١) عبارة تناسب السياق المذكور هنا: «ولأنه لو فُتح هذا الباب لآل إلى تعميم الأيام، إذ لم يبقَ غيرُ خمسة أيام، وهي ما عدا الاثنين والخميس، وفي ذلك حرجٌ يؤدي إمّا إلى الاشتغال عن المصالح، وإمَّا إلى التهاون بالجميع».
17 / 536
وبهذا مع ما تقدّم عُلِمَ الجواب عن طعن بعض أهل الأديان في الإسلام؛ بأنَّه لم يشرع لأهله أن يتّخذوا يوم ولادة رسوله ﵌، أو يوم بَعْثِه عيدًا.
وطعن بعضهم في القرون الإسلامية الأولى بذلك؛ لأنَّه لم يحدث الاحتفاء بيوم ١٢ ربيع الأول إلَاّ في القرن ...... (^١).
فيقال لهم: إنَّ النِّعْمة كان حدوثها يومَ وُلِد ﵌[ص ٦]، ويوم بُعِث؛ وأمَّا مثل ذلك اليوم من كل أسبوع، أو شهر، أو فصل، أو سنة= فلا يحدث فيه إلَّا تذكُّر النِّعْمة. وتذكُّر النِّعْمة لا يُحْدِث في النفس سرورًا دنيويًّا، يبعثها على إظهار الزينة حتى ينبغي أن نتّخذه عيدًا، وإنَّما يُحدِث فيها سرورًا دينيًّا يبعثها على شكر تلك النِّعْمة.
وقد شرع الله ﷿ لنا أقرب الأمثال لذلك اليوم، وهو مثله من كل أسبوع؛ أن نقوم بشكره ﷿ على تَينكَ النِّعمتين العظيمتين؛ بعبادةٍ خالصة عن حظِّ النفس، وهي الصيام الذي يناسب السرور الديني، فإن السرور الديني يبعث على الرغبة عن الدنيا.
وقد ذكَّرني هذا الاعتراض ما صحَّ أنَّ اليهود قالوا لعمر بن الخطاب ﵁: آيةٌ في كتابكم معشرَ المسلمين لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]. فأجابهم الفاروق ﵁ بأنَّها
_________
(^١) بياض في الأصل. ومعلوم أن ابتداء الاحتفال بالمولد كان في القرن السادس على يد السلطان المظفر كوكبوري صاحب إربل، والله المستعان.
17 / 537
نزلت يوم الجمعة يوم عرفة؛ والنَّبي ﵌ بعرفةَ (^١).
يعني: وكلاهما يوم عبادة شرعها الله تعالى للمسلمين، فيوم عرفة يوم شُرِع فيه للحجاج الوقوف بعرفات، وذكر الله تعالى، ولغيرهم الصيام، ويوم الجمعة قد تقدم العبادات التي فيه. والعبادة هي التي ينبغي عملها عند تذكُّر النِّعَم لا الزينة.
وعندي: أنَّ هذا الاعتراض من خُبْثِ المغضوب عليهم ــ قاتلهم الله ــ؛ طمعوا أن يَستزِلُّوا المسلمين إلى إحداثٍ يخالفون به نفس تلك الآية العظيمة؛ فكبَتَهم الله: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: ٢٥].
ولكن المسلمين ــ ويا للأسف ــ نَسُوا صومَ يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله ﷿، وما يتضمَّن ذلك من محبَّته ﵌؛ حتى إنَّ أكثرهم يجهل ذلك. ولم أرَ طولَ عمري من يصومه بتلك النيَّة، ولا مَن يذكره؛ إلَاّ أنني سمعتُ مَن يذكر الحديثَ احتجاجًا على مشروعية الاحتفاء بثاني عشر ربيع الأول؛ فالله المستعان.
فأمَّا صوم يوم عاشوراء فكان من بقايا شرائع الأنبياء المتقدّمين، وجاء: أنَّه اليوم الذي أنجى الله تعالى [فيه] موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه. فصامه موسى ﵇، وأمر بصيامه، وصامه النَّبي ﵌، وأرشد إلى صيامه (^٢)؛ عملًا بقول الله ﷿: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠].
_________
(^١) أخرجه البخاري (٤٥، ٤٤٠٧) ومسلم (٣٠١٧) من حديث طارق بن شهاب عن عمر.
(^٢) أخرجه البخاري (٢٠٠٤) ومسلم (١١٣٠) من حديث ابن عباس.
17 / 538
وقد كانت أيامٌ حدثتْ فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يشرع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها. وبما أنَّ الله تعالى قد أكمل الدين؛ فليس لأحدٍ إحداثُ شيء من ذلك.
وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعَم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيصُ أمثالها بعبادةٍ مخصوصةٍ؛ لأن الدِّين قد كمل في حياة الرسول ﵌، ولأنّ كل نعمةٍ عامةٍ للمسلمين حدثَتْ بعده ﵌ فهي فرعٌ عن النِّعَم التي حدثتْ في عهده ﵊.
ومن الباب ــ أعني حدوثَ النِّعْمة في شهرٍ ــ: شهر رمضان، قال الله ﷿: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]. فالفاء في قوله: ﴿فَمَنْ﴾ للتعليل؛ تدلُّ على أنَّ ما قبلها علّة لما بعدها. ومثلُ (الشهر) إنَّما يحصل في السنة مرّةً، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى.
[ص ٧] ومن ذلك: تسع ذي الحجة؛ شرع الله تعالى لغير الحاجّ صيامها، وعدَّه شكرًا له ﷿ على تيسير طريق الحج لإخوانهم، وعلى النِّعَم التي شرع الحج شكرًا لها. وأكَّد لهم صوم يوم عرفة؛ لأنَّه يوم الحج الأكبر. وإخوانهم من جميع بلدان المسلمين قد برز فيهم الاجتماع الحسيّ بأجلى مظاهره؛ وهو رمز إلى اجتماع كلمة المسلمين جميعًا. وتلك من أعظم النِّعَم التي يجب شكرها لغيرهم، والله أعلم.
فأمَّا سبب تخصيص الحج بالأيام من ذي الحجة فلم أستحضر الآن الأصلَ في ذلك؛ إلَاّ أنَّ الاستقراء يدلُّ على أنَّ لذلك سببًا، من جنس ما تقدَّم.
17 / 539
وعلى كل حال، فليس المقصود هنا استيفاء العبادات، وإنَّما المقصود: بيان أن الأيام التي تحدثُ فيها النِّعَم العظام مرَّة من الزمان لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنَّما يجعلها مواسم للعبادات؛ شكرًا على تلك النِّعَم، مع حِكَمٍ أخرى.
أمَّا المقاصد السياسية في الأعياد فأهمها: الاجتماع؛ ليطَّلع كلٌّ من أفراد الأمة على أحوال غيره، ويتبادلوا الأفكار، ويوحدوا صفَّهم، وغير ذلك.
وقد راعتِ الشريعة الإسلامية الاجتماعَ على غاية ما يمكن؛ فشُرِعَت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قريةٍ أو محلّةٍ، وشُرِعَ تقليل المساجد وتوسيعُها؛ حتى لا يزيد عددها على قدر الحاجة، فيكون الزائد كمسجد الضرار تفريقًا بين المؤمنين، مع ما في ذلك من تحجير البقعة لغير حاجةٍ، وكان يمكن أن تنفع المسلمين باتخاذها مدرسةً أو نحوها.
وبعض الأئمة يرى أنَّ الجماعة فرض عينٍ؛ بل منهم من جعلها من شروط الصلاة.
ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينةٍ في مسجدٍ واحدٍ؛ ولذلك لم يُجوِّز بعضُ الأئمة تعدُّد الجمع في البلد الواحد وإن اتّسعَ وضاق المسجد، بل يجب على المسلمين توسيع المسجد ولو إلى أميال. وهذا هو الموافق للسنة، وعمل القرون الأولى مع اتساع المدن وكثرة الناس، وهو الموافق لحكمة الاجتماع.
ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة؛ حتى شُرع فيه إخراج النساء؛ صغارًا وكبارًا، حتى الحيَّض ــ كما مرَّ ــ. وبعض الأئمة يرى أن العيد فريضة.
17 / 540
ثم شُرع الحج؛ ليجتمع في موضعٍ واحدٍ جميعُ المسلمين.
هذا هو الأصل؛ على ما تقدَّم. ولكن ــ ويا للأسف ــ المسلمون جهلوا هذه الحِكَم؛ فقليلٌ منهم يجتمعون هذا الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلًا ما يبحثون عن مصالحهم. حتى إنَّ الخطب الجُمعية والعيدية والحَجّيَّة تراها بمعزلٍ عن هذا.
وأكثر الحجَّاج لا يبحثون عن شيء من مصالح المسلمين في سائر الأقطار.
اللهم أَيقِظِ المسلمين لتدبُّر دينهم الكافل لمصالح دنياهم وأخراهم، بيدك الخير، وعلى كل شيء قدير (^١).
_________
(^١) إلى هنا انتهت الرسالة. وقد كتب المؤلف على صفحة غلافها ما يلي:
ما عليه كثير من الناس [من ذكر] الأيام التي وقعتْ في مثلها بليَّة أو مصيبة؛ كما كان ... وكما يفعله النصارى في تذكار صلب المسيح ﵇، وأيام قتل الشهداء، وغير ذلك، لا يُعلَم في الإسلام شيءٌ من ذلك.
وسببه أنَّ المشروع عند المصائب الصبر؛ فإذا شرع ذلك في يوم حدوث المصيبة فبالأولى فيما يماثله من الأيام؛ لأنَّه لم يحدُثْ في المثل شيءٌ.
وأمَّا ما سُمِح به يومَ حدوثِ المصيبة من إراقة الدمع؛ فذلك لأنَّه أمرٌ طبيعيٌ، لا يُستطاع دفعُه، ولا يكون هكذا في مثل ذلك اليوم.
وهكذا ما أُمِرتْ به زوجةُ المتوفى من الإحداد فهو أمرٌ خاصٌّ بها لمدَّةٍ معيَّنةٍ، وقد صحَّ النهي عما عدا ذلك.
وإذا تأمّل العاقل وجد أنَّ هذا النوع من الأعياد يُنتِج نقيضَ المقصود؛ ولأننا نرى الأقوام المعتنين بها تكون حالُهم فيها حالَ سرورٍ وفرحٍ، ولهو ولعب؛ إذا استثنينا بعض الحركات التكلُّفية التي أصبحت مظهرًا من مظاهر اللهو واللعب أيضًا، والله المستعان.
17 / 541