Odipus Da Theseus
أوديب وثيسيوس: من أبطال الأساطير اليونانية
Nau'ikan
ومن يدري! لعل هذه العلة الخفية لا وجود لها، ولعل القضاء يمضي كما يريد لا يخضع لقانون، ولكنه على كل حال صارم قاس بالقياس إلى الآلهة والناس جميعا. غير أن الإنسان ليس خاضعا خضوعا كاملا شاملا مستسلما لهذا القضاء، وإنما هو مستمتع بشيء من الحرية قد يكون قليلا، وقد يكون ضئيل الأثر، وقد لا يكون له أثر ما، ولكنه موجود على كل حال. وآية ذلك أولا أن الإنسان يريد أن يعرف ما أضمر له القضاء، يعمل في ذلك عقله، ويستنبئ عن ذلك وحي الآلهة؛ فهو إذن لا يخضع لأحكام القضاء غير عالم بها، أو غير مفترض لوجودها كما يخضع لها الحيوان، وكما تخضع لها الكائنات الأخرى التي تأتلف منها الطبيعة. وليس قليلا أن يتلقى الإنسان ما كتب له من خير وما قضي عليه من شر وهو عالم به وعالم بالمصدر الذي يسوقه إليه أو يسلطه عليه.
وهناك آية ثانية على حرية الإنسان أمام القضاء؛ فهو لا يطمئن إلى العلم بما كتبت الأقدار عليه، وإنما يحاول أن يخلص مما قضي عليه من الشر. وليس المهم أن ينجح أو يخفق في هذه المحاولة، وإنما المهم أن يحاول. فلايوس وجوكاست يعلمان أن ابنهما سيقتل أباه ويتزوج أمه، فيحاولان التخلص من هذا الشر بقتل الصبي قبل أن ينمو ويقترف هذه الآثام، ولا عليهما بعد ذلك أن يفلت الصبي مما دبرا له من الموت.
وأوديب يعلم بما دبر القضاء له؛ فيفر من قصر الملك في كورنت محاولا أن يتجنب الإثم، ولا عليه بعد ذلك أن يقتل لايوس، فلو قد عرف أنه أبوه لما قتله، ولا عليه أن يتزوج جوكاست، فلو قد عرف أنها أمه لما اقترن بها.
وهناك آية أخرى على حرية الإنسان أمام القضاء، وهي أعظم من هاتين الآيتين خطرا، وهي التي يصورها لنا سوفوكل في قصة «أوديب ملكا»، ولكنه يصورها تصويرا أعظم روعة وأكثر جلاء في قصته الأخرى «أوديب في كولونا»، وهي أن الإنسان حين يعجز عن رد القضاء لا يرى نفسه منهزما، ولا يرى نفسه مسئولا عما تورط فيه من الإثم؛ فهو يؤمن بأن التبعة يجب أن تكون نتيجة للحرية، وأن يكون حظ الإنسان من هذه التبعة ملائما لحظه من الحرية، فأوديب تدفعه الغريزة الإنسانية الأولى كما تدفعه التقاليد الموروثة إلى أن يعاقب نفسه حين يستكشف الإثم المروع الذي تورط فيه. ولكنه بعد شيء من التفكير يستطيع أن يثبت للقضاء، وأن يقف من الآلهة موقف المدافع عن نفسه المحتج لها؛ لأنه لم يرد قتل أبيه، ولم يقتله وهو يعلم أنه أبوه، ولم يرد الزواج من أمه، ولم يتزوج منها وهو يعلم أنها أمه.
فإن كان في هذا كله إثم فليس هو المسئول عن هذا الإثم، وإنما يسأل عنه القضاء الذي دبره، والآلهة الذين ضللوا أوديب حتى تورط فيه على كثرة ما حاول تجنبه والتخلص منه. هو إذن بريء أمام نفسه، ولا عليه أن يراه الناس بريئا أو أن يتهموه ويحكموا عليه.
على أن أوديب لا يكتفي بذلك، وإنما يريد أن يقنع القضاء والآلهة أنفسهم ببراءته، وهو يبلغ من ذلك ما يريد؛ فقد رضي الآلهة عنه آخر الأمر فآووه إلى هذه الضاحية من ضواحي أثينا، وألقوا عليه السكينة، وأشاعوا في نفسه الطمأنينة والأمن، وجعلوا جثته مصدر بركة للبلد الذي تدفن فيه، وهم قد عاقبوا مدينة ثيبا فأثاروا فيها الفتنة بين الأخوين الملكين، وحرموها هذه البركة المتصلة بشخص أوديب حين قضوا أن يموت غريبا، وأن يدفن في بلد غريب.
وإذن فقد انتهت حرية الإنسان إلى شيء من الفوز، لم تستطع أن تجنب صاحبها المحنة، ولا أن تنقذه من الشر في هذه الحياة، ولكنها قد صفت نفسه، وطهرت قلبه، واستخلصته من الآثام كما يستخلص المعدن النقي مما يحيط به من الخبث. فليست هذه المحنة إذن إلا تجربة لحرية الإنسان، ووسيلة إلى تصفية نفسه، وتنقية جوهره إن استطاع أن يثبت للآلام وينفذ من الخطوب.
إلى هذا كله أراد سوفوكل حين كتب قصتيه اللتين صور في إحداهما محنة أوديب ملكا، وفي أخراهما نجاة أوديب منفيا بائسا طريدا. ويجب أن نعترف بأن الذين أرادوا أن يقلدوا سوفوكل لم يبلغوا مما أرادوا شيئا ذا خطر، لا أستثني منهم إلا المعاصرين من الكتاب الفرنسيين.
فالكاتب الشاعر الفيلسوف سينيك لم يضف إلى ما ابتكر سوفوكل شيئا، ولعله أضاع منه أشياء. وإذا كان لقصته شيء من جمال فأكبر الظن أنه إنما يأتيها من روعة الفصاحة اللاتينية، ومن بعض الخواطر الفلسفية العابرة.
أما كورني فقد كان مفتونا بقصته، ويظهر أن معاصريه منحوا قصته هذه غير قليل من الرضا والإعجاب. ولكن كورني فيما أعتقد قد أفسد قصة أوديب إفسادا عظيما؛ رأى أن يلائم بين القصة وبين ذوق البيئة التي كان يكتب لها، وقد لاحظ أن تلك البيئة لم تكن تتصور قصة تمثيلية تخلو من الحب ، ومن الحب الذي يكون له في المأساة نفسها أثر خطير. وليس في قصة سوفوكل حب أو شيء يشبه الحب، فاضطر كورني إلى أن يحدث حبا ذا خطر، واضطر من أجل ذلك إلى أن ينشئ للايوس بنتا تكبر أوديب سنا، وأن ينشئ بين هذه الفتاة وبين ثيسيوس
Shafi da ba'a sani ba