شعر
أبي تمام
قال أبو الفرج: هو حبيب بن أوس الطائي ومنشؤه منبح بقرية منها يقال لها: جاسم. شاعر مطبوع لطيف الفطنة دقيق لمعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناوله على غيره والسليم من شعره لا يتعلق به أحد. ومن الناس من يتعصب له ويفضله على جميع الشعراء من سالف وخالف، وقوم يعتمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه. وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسان، والتوسط في كل شيء أجمل والحق أحق أن يتبع وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء من لا يشق الطاعنون عليه غباره، ولا يدكون وإن وجدوا آثاره. وروي أن محمد بن الزيات كان يقول: أشعر الناس طرًا الذي قول يعني أبا تمام:
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنتَ لي ماءَ وجهي أو حقنتَ دمي
وسئل إبراهيم بن العباس من أشعر أهل زماننا؟ فقال: الذي يقول يعني أبا تمام:
مطر أبوكَ أبو أهلة وائلِ ... ملأ البسيطة عدةً وعديدا
نَسَبٌ كلأنَّ ليه من شمس الضحى ... نورًا ومن فلق الصباح عمودا
قال أبو الفرج: قدم عمارة بن عقيل بغداد فاجتمع الناس إليه فكتبوا شعره وشعر أبيه وعرضوا عليه الأشعار فقال بعضهم ها هنا شاعر يزعم أنه أشعر الناس طرًا فقال: أنشدوني من قوله فأنشدوه:
غدت تستجيرُ الدمعَ خوف نوى غدِ ... وعادَ قتادًا عندها كلُّ مرقدِ
وأنقذها من غمرة الموتٍ أنه ... صُدودُ فراقٍ لا صُدود تعمد
فأجرى لها الإشفاقُ دمعًا موردًا ... من الدم يجري فوق خدٍّ مورد
هي البدر يكفيها تودُّد وجهها ... إلى كلّ من لاقت وإن لم تودَّد
ثم قطع الإنشاد فقال عمارة زدنا من هذا فوصل إنشاده فقال:
ولكنّني لم أحو وفرًا مَجمعًا ... ففزتُ به إلاّ بشملِ مبدد
ولم تعطني الأيام نومًا مسكنًا ... ألذُّ به إلا بنومِ مُشرَّد
فقال عمارة لله دره لقد تقدم في هذا من سبقه إليه على كثرة القول فيه حتى حبب الاغتراب هيه فأنشده:
وطولُ مُقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدد
فإني رأيت الشمسَ زيدت محبةً ... إلى الناس إن ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واتساق الكلام فإن صاحبكم هذا أشعر الناس. وكان علي بن الجهم يصف أبا تمام ويفضله فقال له رجل والله لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك هذا فقال إن لم يكن أخًا بالنسب فإنه أخ بالأدب والمودة أما سمعت ما خاطبني به حيث يقول:
إن يُكِد مطرّفُ الإخاء فإننا ... تَغدو ونَسري في إخاءٍ تالد
أو يختلف ماءُ الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدّرَ من غمام واحد
أو يفترقْ نسبٌ يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناهُ مقامَ الوالد
وكان محمد بن حازم يفضل أبا تمام ويقدمه ويقول لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها:
أصمّد بك الناعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجودِ بعدكَ بلقعا
وقوله:
لو يقدرونَ مشوا على وجناتهم ... وجباههم فضلًا عن الأقدام
لكفاه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كان عمارة بن عقيل عندنا يومًا فسمع مؤدبًا كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام:
الحقُّ أبلج والسيوفُ عَوار ... فحذارِ من أسد العرين حذارِ
فلما بلغ قوله:
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعًا من قارِ
بكروا وأسروا في متون ضوامرٍ ... قيدَت لهم من مربط النجّار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدًا على سَفرٍ من الإسفار
فقال عمارة لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه كأنه موقوف عليه. قال إبراهيم بن العباس ما تكلمت في مكاتبتي إلا على ما جاش به صدري إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام:
إذا مارقٌ بالغدرِ حاول غدرةً ... فذاك حريٌّ أن تئيم حلائله
فإن باشر الإصحارَ فالبيض، والقنا ... قراه وأحواضُ المنايا مناهله
وإن يبنِ حيطانًا عليه فإنما ... أولئك عُقالاتُه لا معاقله
وإلا فاعلمهُ بأنك ساخطٌ ... ودعه فإنَّ الخوف لا شك قاتله
1 / 1
فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي فقلت ما كان يجرزهم يبرزهم وما كان يعقلهم يعتقلهم. ثم قال: إن أبا تمام اخترم بخاطره ولا نزح ركي فكره حتى انقطع رشأ عمره. قال يزيد المهلبي: ما كان أحد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهمًا في حياة أبي تمام بالشعر فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه. لما قدم أبو تمام خراسان اجتمع الشعراء إليه وسألوه أن ينشدهم فقال قد وعدني الأمير أن أنشده غدًا وستسمعونني فلما دخل على عبد إله بن طاهر أنشده:
أهنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبه ... فعزمًا ما أدْركَ السؤلَ طالبه
فلما بلغ إلى قوله:
وقلقل نأيٌ من خراسان جأشها ... فقلتُ اطمئنّي أنضرُ الروض عازبه
وركب كأطرافِ الأسنةِ عرسوا ... على مثلها والليلُ تسطو غياهبه
لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس ما يستحق هذا الشاعر غير الأمير حفظه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي لي عند الأمير أعزه الله جائزة وعدني بها وقد جعلتها لهذا جزاء عن قوله للأمير، فقال بل نضعها لك ونقوم له بما يجب علينا لما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئًا فوجدا عليه عبد الله وقال يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك فقال أبو تمام:
لم يبقَ للصيفِ لا رسمٌ ولا طللُ ... ولا قشيبٌ فيسكتسى ولا سمل
عدل من الدمع أن يُبكى المصيف كما ... يُبكى الشبابُ ويُبكى اللهو الغزل
يمنى الزمان طوت معروفها وغدت ... يسراه وهي لنا من بعده بدل
فدخل أبو العميثل شاعر آل طاهر على عبد الله فقال: أيها الأمير أتتهاون بمثل أبي وتجفوه فوالله لو يكن له من النباهة في قدرة والإحسان في شعره والشائع من ذكره لكان الخوف من شره والتوقي لذمه يوجب على مثلك رعايته ومراقبته فكيف له وينزوعه إليك من الوطن وفراقه السكن وقد قصدك عاقدًا بك أمله معملًا إليك ركابه متعبًا فيك فكره وجسمه وفي ذلف ما يلزمك قضاء حقه حتى ينصرف راضيًا ولو لم يأت بفائدة ولا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله:
يقول في قومسَ صحبي وقد أخذتْ ... منا السُّرى وخطي المهَرية القودِ
أمطلعَ الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلتُ كلاّ ولكنْ مطلعَ الجودِ
لكفى فقال عبد الله نبهت فأحسنت وشفع فلطفت وعاتبت فأوجعت ولك ولأبي تمام العتبى، وأمر له بألف دينار وما يحمله من الظهر وخلع عليه خلعة تامة وزاد في إكرامه قال جابر الكوخي حضرت أبا دلف وعنده أبو تمام وقد أنشده قصيدته:
على مثلها من أربع وملاعبِ ... أذيلت مصوناتُ الدموع السواكب
فلما بلغ قوله:
إذا افتخرت يومًا تميمٌ بقوسها ... وزادتْ على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم ... عروشَ الذين استرهنوا قوس حاجب
محاسن من مجدٍ متى تقرنوا بها ... محاسنَ أقوام تكن كالمعايب
فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط فما عندكم لقائله فبادروه بمطارفهم يرمون بها عليه فقال أبو دلف قد قبلها منكم وأعاركم لبسها وسأنوب عنكم في ثوابه. تمم القصيدة يا أبا تمام فأتمها فأمر له بخمسين ألف درهم وقال والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك فاعذرنا فشكره وقام يقبل يده فحلف أن لا يفعل ثم قال أنشدني قولك في ابن حميد فأنشده:
وما ماتَ من ماتَ مضربُ سيفه ... من الضربِ واعتلّت عليه القنا السمرُ
وقد كانَ فوت الموت سهلًا فرده ... إليه الحفاظُ المرُّ والخلق الوعر
ونفسٌ تعافُ العار حتى كأنه ... هو الكفرُ يومَ الروع أو دونه الكفر
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجله ... وقال لها من تحتِ أخمصك الحشر
غدا غدوةً والحمدُ نسج ردائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر
كلأنَّ بني نبهان يوم مصابه ... نجومُ سماء خرّ من بينها البدر
يُعزونَ عن ثاوٍ تعزَّى به العلى ... ويبكي ليه البأسُ والجُودُ والشعر
1 / 2
فلما أنشده إياها قال والله لوددت أنها في. قال بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي وأكون المقدم دونه فقال إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر. قدم أبو تمام مادحًا للحسن بن رجاء فاستنشده قصيدته اللامية التي مدحه بها فلما انتهى إلى قوله:
أنا ذو عرفتِ فإن عرتكِ جهالةٌ ... فأنا المقيمُ قيامةَ العذال
عطفت ملامتها على ابنِ ملمةٍ ... كالسيف جأب الصبر شخت الآل
عادت له أيامه مسودة ... حتى توهم أنَّهنَّ ليالي
قال الحسن والله ما تسود عليك بعد اليوم فلما قال:
لا تنكري عطلَ الكريم من الغنى ... فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
وتنظري خبب الركاب ينصها ... محيي القريض إلى مميت المال
قام الحسن على رجليه وقال والله لا تتمها إلا وأنا قائم فقام أبو تمام لقيامه وقال:
قد قلت وهي تنال من عرض الفلا ... بملاطسِ بالوخد غير أوال
أحوامل الأثقال إنك في غدٍ ... بفناء أحمل منك للأثقال
لما وردنا ساحة الحسن انقضى ... عنا تعجرف دولة الإمحال
أحيى الرجاء لنا برغم نوائبٍ ... كثرت بهنَّ مصارع الآمال
أغلى عذارى الشعر أن مهورها ... عند الكرام وإن رخصن غوالي
ترد الظنون بنا على تصديقها ... ويحكم الآمال في الأموال
أضحى سمي أبيك فيك مصدقًا ... بأجل فائدة وأيمن فال
ورأيتني فسألت نفسك سيبها ... لي ثم جدت وما انتظرت سؤالي
كالغيث ليس له ... أريد نواله
أو لم يرد
بدٌّ من التّهطال
فتعانقا وجلسا فقال له الحسن ما أحسن ما جلوت به هذه العروس فقال والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها. كان دعبل عند الحسن بن رجاء يضع من أبي تمام فقال له قائل يا أبا علي اسمع مني ما قاله فإن أنت رضيته فذاك وإلا وافقتك على ما تذمه منه وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه ثم أنشده:
أما إنه لولا الخليط المودع ... ومغنى عفا منه مصيفٌ ومربع
فلما بلغ إلى قوله:
هو السيل إن واجهته انقدت طوعهُ ... وتقتاده من جانبيه فيتبع
ولم أر نفعًا عند من ليس ضائرًا ... ولم أر ضرًا عند من ليس ينفع
معاد الورى بعد الممات وسيبه ... معادٌ لنا قبل الممات ومرجع
فقال دعبل لم ندفع فضل هذا الرجل ولكنكم ترفعونه فوق قدره وتقدمونه على من تقدمه وتنسبون إليه ما قد سرقه فقال له إحسانه صيرك له عائبًا وعليه عاتبًا.
أنشد أبو تمام أبا الحسن محمد بن الهيثم بالجبل قوله فيه:
أسقى ديارهم أجشُّ هزيمُ ... وغدت عليهم نظرة ونعيم
فلما فرغ أمر له بألف دينار وخلع عليه خلعة حسنة فلما كان من الغد كتب إليه أبو تمام:
قد كسانا من كسوة الصيف خِرْقٌ ... مكتسٍ من مكارم ومساع
حلةً سابريةً ورداء ... كسحا القيض أو رداء الشجاع
كالسراب الرقراق في النعت إلا ... أنه ليس مثله في الخداع
قصبيًا تسترجف الريح متني ... هـ بأمرٍ من الهبوب مطاع
رجفانًا كأنه الدهرَ من ... هـ كبد الضب أو حشى المرتاع
يطرد اليوم ذا الهجير ولو شب ... هـ في حره بيوم الوداع
حلةً من أغر أروع رحب ... الصدر رحب الفؤاد حب الذراع
سوف أكسوك ما يعفى عليها ... من ثناء كالبرد برد الصناع
حسن هاتيك في العيون وهذا ... حسنُهُ في القلوب والأسماع
فقال محمد بن الهيثم ومن لا يعطي هذا ملكه والله لا يبقى في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام فأمر له بكل ثوب كان يملكه له في ذلك الوقت جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد وفاة أبي تمام فقال له رجل في المجلس يا أبا علي أنت الذي تطعن على من يقول:
شهدتُ لقد أقوت مغانيكم بُعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد
وأنجدتمُ من بعد إتهام داركم ... فيا دمع انجدني على ساكني نجد
فصاح دعبل: أحسن والله وجعل يردد (انجدني على ساكني نجد) ثم قال ﵀ لو كان ترك شيئًا م شعره لقلت أنه أشعر الناس. قال الواثق لابن أبي دؤاد بلغني أنك أعطيت أبا تمام الطائي في قصيدة مدحك بها ألف دينار قال لم أفعل ذلك يا أمير المؤمنين ولكني أعطيته خمسمائة دينار للذي قاله للمعتصم:
1 / 3
فاشدد بهارون الخلافة إنه ... سكنٌ لوحشتها ودار قرار
فتبسم وقال إنه لحقيق بذلك. وتمام الأبيات:
بفتى بني عباس والقمر الذي ... حفّته أنجم يعربٍ ونزار
كرم الخؤولة والعمومة مجّه ... سلفًا قريشٍ فيه والأنصار
هو نوءٌ يُمنٍ فيهمُ وسعادةٍ ... وسراجُ ليلٍ فيهمُ ونهار
فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضى الرية هديهُ والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفةٍ ... ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظومٌ بأندلسٍ إلى ... حيطان رومية فملك ذمار
وقد علمت بأن ذلك معصمٌ ... ما كنت تتركه بغير سوار
فالأرض دارٌ أقفرت ما لمي كن ... من هاشم ربٌّ لتلك الدار
سورُ القرآن الغر فيكم أنزلت ... ولكم تصاغ محاسن الأشعار
وذكر أنه لما مدح محمد بن الزيات بقصيدته التي أولها:
ديمة سمحة القياد سكوبُ ... مستغيثٌ بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة العظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب
قال له ابن الزيات: يا أبا تمام إنك لتحلي شعرك بجواهر لفظك ودرر معانيك ما يزيد حسنًا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب وما ندخر لك شيئًا من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة، وكان بحضرته فيلسوف فقال: إن هذا الفتى يموت شابًا فقيل له من أين حكمت عليه بذلك فقال رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده، وهو لم يتخط الأربعين سنة جملة.
وقد أحببت أن أنقل من مختار قصائده لأنها من فائق الشعر ومما يرتاح لسماعه أهل الأدب والمروءة فمن ذلك قصيدته التي مدح بها الحسن ابن سهل وهي:
أبدت أسى إن رأتني مُخلِسُ القصب ... وآل ما كان من عجبٍ إلى عجب
ستٌ وعشرون تدعوني فأتبعها ... إلى المشيب ولم تظلم ولم تُجب
يومي من الدهر مثل الدهر مشتهرٌ ... عزمًا وحزمًا وساعي منه كالحقب
فأصغري أن شيبًا لاح بي حدثًا ... واكبري إنني في المهد لم أشب
فلا يؤرقك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
رأت تغيُّرَه فاهتاج هائجها ... وقال لاعجُها للعبرة: انسكبي
لا يطردُ الهمَّ إلا الهمُّ من رجلٍ ... مقلقل لبنات القفرة النجب
ماضِ إذا الهمم التفّت رأيت له ... بوخدهنّ استطالات على النوب
لا تنكري منه تخديدًا تخللهُ ... فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شطب
ستصبح العيس بي والليل عند فتى ... كثير ذكر الرضى في ساعة الغضب
صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده ظني ولم يخب
كالغيث إن جئته وافاك رِيقُهُ ... وإن ترحلت عنه لجّ في الطلب
خلائق الحسن استوفي البقاء فقد ... أصبحت قرة عين المجد والحسب
كأنما هو من أخلاقه أبدًا ... وإن ثوى وحده في جحفل لجب
صيغت له شيمةٌ غراءُ من ذهبٍ ... لكنها أهلك الأشياء للذهب
لما رأى أدبًا في غير ذي كرمٍ ... قد ضاع أو كرمًا في غير ذي أدب
سما إلى السورةِ العلياء فاجتمعا ... في فعله كاجتماع النور والعشب
بلوتُ منه وأيامي مذمّمةٌ ... مودة وُجِدت أحلى من الشنب
من غير ما سببٍ ماضٍ كفا سببًا ... للحر أن يعتفي حرًا بلا سبب
وله يمدحه:
أأيامنا ما كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبًا
سنغرب تجديدًا لعهدك في البكا ... فما كنت في الأيام غير غرائبا
ومعترك للشوق أهدى به الهوى ... إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا
كواعب زادت في ليال قصيرة ... تخيّلن لي من حسنهن كواعبا
سلبت غطاء الحسن عن حر أوجهٍ ... تظلُّ للبِّ السالبيها سوالبا
وجوه لو أن الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكانت كواكبا
سلي هل عمرت القفر وهو سباسبٌ ... وغادرتُ ربعي من ركابي سباسبا
وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرت حتى قد نسيت المغاربا
خطوبٌ إذا لاقيتهنّ رددنني ... جريحًا كأني قد لقيت كتائبا
ومن من لم يسلِم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرًا عليه نوائبا
1 / 4
وقد يكهم السيفُ المسمى منية ... وقد يرجع السهم المظفر خائبا
فآفة ذا أن لا يصادف راميًا ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا
وملآن من ضغن كوه توقلي ... إلى الهمة القعسا سنامًا وغاربا
شهدت جسيمات العلا وهو غائبٌ ... ولو كان أيضًا شاهدًا كان غائبا
إلى الحسن اقتدنا ركائب صيرت ... لها الحزن من أرض الفلاة ركائبا
نبذت إليه همتي فكأنما ... كدرت بها نجمًا على الأرض ثاقبا
وكنت امرءًا ألقى الزمان مسالمًا ... فآليت لا ألقاه إلا محاربا
لو اقتسمت أخلاقه الغر لم تجد ... معيبًا ولا خلقًا من الناس عائبًا
إذا شئت أن تحصي فواضل كفته ... فكن كاتبًا أو فاخذ لك كاتبا
عطايا هي الأنواء إلا علامة ... دعت تلك أنواءً وهذي مواهبا
فأقسم لو أفرطت في الوصف عامدًا ... لأكذب في مدحيه لم أكُ كاذبًا
ثوى ماله نهب المعالي فأوجبت ... عليه زكاة الجود ما ليس واجبا
وتحسن في عينيه إن جئت زائرًا ... وتزداد حسنًا كلما جئت طالبا
خدين العلا أبقى له البذلُ والنهى ... عواقب من عرفٍ كفتهُ العواقبا
يطول استشارات التجارب رأيه ... إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجارب
برئت من الآمال وهي كثيرة ... لديك وإن جاءتك حدبًا لواغبا
وهل كنتُ إلا مذنبًا يوم أنتحي ... سواك بآمالي فجئتك تائبا
وقال يمدح عياش بن لهيعة الحضرمي:
تقي جمحاتي لستُ طوعَ مؤنبي ... وليس جنبي إن عذلت بمصحبي
فلم توقدي سخطًا على متنصلٍ ... زلم تنزلي عتبًا بساحة معتب
رضيت الهوى والشوق خدنًا وصاحبًا ... فإن كنت لم ترض بذلك فاغضبي
تصرف حالات الفراق مصرفي ... على صعب حالات الأسى ومقلبي
ولي بدنٌ يأوي إذا الحب ضافه ... إلى كبدِ حرّى وقلب معذب
وحوطيةٍ شمسيةٍ رشية ... مهفهفةِ الأعلى رداحِ المحقب
تصدعُ شملَ القلب من كل وجهة ... وتشعبه بالبث من كل مشعب
بمختبل ساج من الطرف أحورٍ ... ومقتبلٍ صافٍ من الثغر أشنب
من المعطيات الحسن والمؤتياته ... مجلببة أو عاطلًا لم تجلبب
لو أن امرأ القيس بن حجر بدت له ... لما قال مرَّا بي على أم جندب
فتلك شقوري لا ارتيادك بالأذى ... محلي إلا تبكري تتأوَّبي
أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي ... أم استمت تأديبي فدهري مؤدبي
هما أظلما حاليّ ثمة أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
شجى في حلوق الحادثات مشرقٌ ... به عزمهُ في الترهات مغرب
رأيت لعياش خلائق لم تكن ... لتكمل إلا في اللباب المهذب
له كرمٌ لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤٌ برق خلّب
أخو أزماتٍ يذله بذل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب
إذا أمّه العارفون ألفوا حياضه ... ملاءًا وألفوا روضه غير مجدب
إذا قال أهلًا مرحبًا نبعت لهم ... مياه الندى من تحت أهل ومرحب
يهولك أن تلقاه صدرًا لمحفل ... ونحرًا لأعداء وقلبًا لموكب
مصادٌ تلاقت لوَّذًا بريوده ... قبائل حيي حضرموت ويعرب
بأروع مضاء على كل أروع ... وأغلب مقدام على كل أغلب
كلوذِهم فيما مضى بجدوده ... بذي العرف والأحماد قَيْلٍ ومرحب
ذوون قيولٌ لم تزل كل حلبة ... تمزق منهم عن أغرَّ محبِّب
همامٌ كنصلِ السيف كيف هززته ... وجدت المنايا منه في كلّ مضرب
تركت حُطامًا منكبَ الدهر إذ نوى ... زحاميَ لمّا أن جعلتك منكبي
وما ضيق أقطار البلادِ أضافني ... إليك ولكنْ مذهبي فيك مذهبي
وأنتَ بمصرٍ غايتي وقرابتي ... بها وبنو أبيكَ فيها بنو أبي
ولا غر وأن وطأتَ أكناف مرتعي ... لمهمل أخ فاضي ورَفَّهت مشربي
فقومتَ لي ما اعوجَ من قصد همتي ... وبيَّضتَ لي ما اسودَّ من وجه مطلبي
وهاك ثياب المدح فاجرر ذيولها ... عليك وهذا مركبُ الحمد فاركب
وقال يمدح خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني
لقد أخذت من دارِ ماويةَ الحقْبُ ... أنحلُ المغاني للبلى هي أم نهبُ؟
1 / 5
وعهدي بها إذ ناقضُ العهد بدرُها ... مراحُ الهوى فيها ومرحه الخصب
مؤزرة من صنعةِ الوبل والندى ... بوشي ولا وشي وعصب ولا عصبُ
تردد في آرامها الحسنُ فاغتدت ... قرارةً من يُصبي ونجعةً من يصبو
سوا كنُ في برٍّ كما سكنَ الدمى ... نوافرُ من سوء كما نفرَ السرب
كواعبُ أتراب لغيداءَ أصبحت ... وليس لها في الحسن شكل ولا ترب
لها منظرٌ قيدُ النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خُفارته الحبُ
تظل سراة القوم مثنى وموحدًا ... نشاوى بعينها كأنهمُ شرب
إلى خالدٍ راحت بنا أرحبية ... مرافقها من عن كراكرها نِكُب
جرى النَّجَدُ الأحوى عليها فأصبحتْ ... من السير ورُقًا وهي في نجدها صُهب
إلى ملكٍ لولا سجالُ نواله ... لما كان للمعروفِ نقي ولا شخب
من البيضِ محجوبٌ عن السوء والخنا ... ولا تحجبُ الأنواء من كفه الحجب
مصون المعالي لا يزيد أذاله ... ولا مزيدٌ ولا شريكٌ ولا الصُلب
وأشباه بُكر المجد بكرُ بن وائل ... وقاسطُ عدنانٍ وأنجبه هِنبُ
مضوا وهمُ أوتاد نجد وأرضها ... يرونَ عظامًا كلما عظم الخطب
وما كان بين الهضب فرق وبينهم ... سوى أنهم زالوا ولم يزل الهضب
لهم نسب كالفجر ما فيه مسلك ... خفي ولا واد عنود ولا شعب
هو الإضحيان الطلق رفَّت فروعه ... فطاب الثرى من تحته وزكى التراب
إلى أن قال:
فما دب إلا في بيوتهم الندى ... ولم ترب في إلا في جحورهم الحرب
أولاك بنو الأحساب لولا فعالهم ... درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفردٌ ... وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنه ... به أعربت عن ذات أنفسها العرب
هو المشهد الفصل الذي ما نجابه ... لكسرى لا سنام ولا صلب
إلى أن قال:
رددت أديم الغزو أملس بعدما ... غدا ولياليه وأيامه جرب
بكل فتى ضرب يعرض للقنا ... محيًا محلَّى حليه الطعن والضرب
ومنها:
بجودك تبيض الخطوب إذا دجت ... وترجع عن ألوانها الحجج الشهب
هو المركب المدني إلى كل سؤدد ... وعلياء إلا أنه المركب الصعب
إذا سبب أمسى كهامًا لدى امرئٍ ... أجاب رجائي عندك السبب العضب
وسيارة في الأرض ليس بنازحٍ ... على وخدها حزن سحيق ولا سهب
تذرُّ ذرور الشمس في كل بلدة ... وتمسي جَموحًا ما يُرد لها غرب
عَذارى قواف كنت غير مدافع ... أبا عذرها لا ظلم منك ولا غصب
إذا أنشدت في القوم ظلت كأنها ... مسرة كبر أو تداخلها عجب
مفصلةٌ باللؤلؤ المنتقى لها ... من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطب
وقال يمدح أبا دلف لقاسم بن عيسى العجلي، وهي من عيون القصائد
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع الواكب
أقول لقرُحان من البين لم يضف ... رسيس الهوى بين الحشا والترائب
أَعني أفرِّق شمل دمعي فإنني ... أرى الشمل منهم ليس بالمتقارب
فما صار في ذا اليوم عذلك كله ... عدوي حتى صار جهلك صاحبي
وما بك إركابي من الرشد مركبًا ... ألا إنما حاولت رشد الركائب
فكلني إلى شوقي وسريرِ الهوى ... إلى حرقاتي بالدموع السوارب
أميدان لهوي من أتاح لك البلى ... فأصبحت ميدان الصبا والجنائب
أصابتك أبكار الخطوب فشتت ... هواي بأبكار اظباء الكواعب
وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السير لم تقصد لها كفُّ قاطب
فقد أكلوا منها الغوارب بالسُّرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب
يصرف مسراها جذيل مشارق ... إذا آبه همُّ عذيق مغارب
يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر ... وبالعرمس الوجناء غرة آيب
كأن به ضغنًا على كل جانب ... من الأرض او شوقًا إلى كل جانب
إذا العيس لاقت بي أبادلف فقد ... تقطع ما بيني وبين النوائب
هنالك تلقى المجد حيث تقطعت ... تمائمه والجود مرخي الذوائب
تكاد عطاياه يجنُّ جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب
1 / 6
إذا حركته هزة المجد غيَّرت ... عطاياه أسماء الأماني الكواذب
تكاد مغانيه تهشُّ عراصُها ... فتركب من شوق إلى كل راكب
إذا ما غدا أغدى كريمة ماله ... هديًا ولو زفت لألأم خاطب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من منور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب
إذا ألجمت يومًا لُجيمٌ وحولها ... بنو الحصن نجل المحصنات النجائب
فإن المنايا والصوارم والقنا ... أقاربهم في الروع دون الأقارب
جحافل لا يتركن ذا جبريةٍ ... سليمًا ولا يحرُبن من لن يحارب
يمدون من أيدٍ عواص عواصم ... تصولُ بأسياف قواض قواضب
إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا ... صدور العوالي في صدور الكتائب
إذا افتخرت يومًا تميمٌ بقوسها ... وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
محاسن من مجد متى تقرنوا بها ... محاسن أقوام تكن كالمعايب
معالٍ تمادت في العلو كأنما ... تحاول ثأرًا عند بعض الكواكب
وقد علم الافشين وهو الذي به ... يُصان رداء الملك عن كل جاذب
بأنك لما استخدل النصر واكتسى ... أهابيّ تسقى في وجوه التجارب
تجللته بالرأي حتى أريتهُ ... به ملء عينيه مكان العواقب
بأرشق إذ سالت عليهم غمامةٌ ... جرت بالعوالي والعتاق الشوازب
سللت لهم سيفين رأيًا ومنصلًا ... وكلٌ كنجم في الدجنَّة ثاقب
وكنت متى تهزز لخطبٍ تغشِهِ ... ضرائب أمضى من رقاق المضارب
فذكرك في قلب الخليفة بعدها ... خليفتك المقفى بأعلى المراتب
فإن تنس يذكر أو يقل فيك حاسدٌ ... يغُل قوله أَو تنأ دارٌ صاقب
فأنت لديه حاضرٌ غيرُ حاضرٍ ... بذكرٍ وعنه غائب غير غائب
فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوبُ العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
اقول لأصحابي هو القاسم الذي ... به شرح الجود التباس المذاهب
وإني لأرجو عاجلًا أن تردني ... مواهبُهُ بجرًا تُرجَّى مواهبي
وقال يمدح عمر بن طوق التغلبي
أحسن بأيام العقيق وأطيب ... والعيش في أظلالهنَّ المعجب
ومصيفهنَّ المستظلّ بظله ... سرب المها وربيعهنَّ الصيِّب
أُصُل كبرد العصب نيط إلى ضحى ... عبقٍ بريحان الرياض مطيب
وظلالهنَّ المشرقات بخرَّدٍ ... بيض كواعب غامضاتٍ الأكعب
وأغنَّ من دُعج الظباء مريبٍ ... بدلنَّ منه أغنَّ غير مربب
لله ليلتنا وكانت ليلة ... ذخرت لنا بين اللوى فالعُليب
مالت وقد أَعلقت كفّي كفَّها ... حلًا وما كل الحلال بطيب
فنعمتُ في شمس إذا حُجبت بدت ... من نورها فكأنها لم تحجب
وإذا دنت خلت الظباء ولدنها ... ربعيّة واسترُضعت في الربرب
إنسيَّةٌ إن حصلت أنسابها ... جنية الأبوين ما لم تنسب
قد قلت للزباء لمّا أصبحت ... في حدّ نابٍ للزمان ومخلب
لمدينة عجماء قد أمسى البلى ... فيها خطيبًا باللسان المعرب
فكأنما سكن الفناء عراصها ... أوصال فيها الدهر صولة مغضب
لكن بنو طوقٍ وطوقٌ قبلهم ... شادوا المعالي بالثناء الأغلب
فستخرب الدنيا وأبنية العلى ... وقبابها جددٌ بهم لم تخرب
رفعت بأيام الطعان وأَغشيت ... رقراق الونٍ بالسماحة مذهب
يا طالبًا مسعاتهم لتنالها ... هيهات منك غبار ذاك الموكب
أنت المعنَّى بالغواني تبتغي ... أقصى مودتها برأس أشيب
وطئ الخطوب وكفَّ من غلوانها ... عُمرُ بن طوقٍ نجم أهل المغرب
ملتف أعراق الوشيج إذا انتمى ... يوم الفخار ثريُّ تربِ المنصب
في معدنِ الشرف الذي من حليه ... سبكت مكارم تغلب ابنة تغلب
قد قلت في غسق الدجى لعصابةٍ ... طلبت أبا حفص: مناخ الأركب
الكوكب الجشميُّ نصب عيونكم ... فاستوضحوا بضياء ذاك الكزكب
1 / 7
يُعطي عطاء المحسن الخضل الندى ... عفوًا ويعتذر اعتذار المذنب
ومرحبٌ بالزائنين وبشره ... يغنيك عن اهلٍ لديه ومرحب
يغدو مؤمله إذا ما حطّ في ... أكنافه رحل المكل الملغب
سلس اللبانة والرجاء ببابه ... كَثبَ المنى ممتد ظل المطلب
الجد شيمتُهُ وفيه فكاهةٌ ... سمحٌ ولا جدٌ لمن لم يلعب
شرسٌ ويتبع ذاك لينُ خليفةٍ ... لا خير في الصهباء ما لم تقطب
صلبٌ إذا اعوجَّ الومان ولم يكن ... ليلين صلب الخطب من لم يصلب
الودُّ للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأَوطان دون الأقرب
وكذاك عتاب بن سعد أصبحوا ... وهمُ زمام زماننا المتقلب
هم رهطُ من أمسى بعيدًا رهطه ... وبنو أبي رجُلٍ بغير بني أب
ومنافسٌ عُمرَ بن طوق ماله ... من ضغنه غير الحصى والأثلب
تعب الخلائق والنوال ولم يكن ... بالمستريح العرض من لم يتعب
بشحوبه في المجد أشرق وجهه ... لا يستنير فعال من لم يشحب
بحر يطمّ على العفاة وإن تهج ... ريح السؤال بموجه يغلولب
والشولُ ما حُلبت تدفق رِسلها ... وتجفُ درتَّها إِذا لم تحلب
يا عقب طوق أيّ عقب عشيرةٍ ... وأنتم ورَبةَ معقب لم يعقب
قيدت من عمر بن طوق همَّتي ... بالحوَّل الثبت الجنان القلّب
نفق المديحُ ببابه فكسوته ... عقدًا من الياقوت غير مثقب
أولى المديح بأن يكون مهذبًا ... ما كان منه في أغر مهذب
غربت خلائقهُ فأغرب شاعرٌ ... فيه فأحسن مُغربٌ في مُغرب
لما كرمت نطقت فيك بمنطق ... حقٍّ فلم آثم ولم اتحوَّب
ومتى مدحتُ سواكَ متى يضق ... عني له صدق المقالة أكذب
وقال يمدح أبا العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب
أهنَّ عوادي يوسف وصواحِبُه ... فعزمًا فقدمًا أدرك السؤل طالبه
إذا المرء لم تستخلص الحزم نفسُهُ ... فذروته للحادثات وغاربه
أعاذلتني ما أَخشن الليل مركبًا ... وأخشنُ منه في الملمات راكبه
ذريني وأهوال الزمان اُقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه
ألم تعلمي أنَّ الزماع على السرى ... أخو النجح عند الحادثات وصاحبه
دعيني على أخلاقي الصُّم التي ... هي الوفر أو سربٌ ترنُّ نوادبه
فإن الحسام الهنداوي إِنما ... خشونته ما لم تفلل مضاربه
وقلقل نأيي من خراسان جأشها ... فقلت اطمئني انضر الروض عازبه
وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدورُهُ ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
على كل موار الملاط تهدمت ... عريكتُه العلياء وانضمَّ حالبه
رعته الفيافي بعد ما كان حقبةً ... رعاها وماء الروض ينهلُّ ساكبه
فأضحى الفلا قد جدَّ في بري نحضِهِ ... وكان زمانًا قبل ذاك يلاعبه
فكم جزع وادٍ جبَّ ذروة غارب ... وبالأَمس كانت أتمكته مذانبه
إليك جزعنا مغرب الملك كلّما ... وسطنا ملًا صلَّت عليك سباسبه
فلو أنَّ سيرًا رمنهُ فاستطعنه ... لصاحبنا شوقًا إليك مغاربه
إلى ملك لم يلق كلكل بأسه ... على ملك إلا وللذل جانبه
إلى سالب الجبار بيضة ملكهِ ... وآمله غادٍ عليه فسالبه
وأي مرام عنه يعدو نياطه ... غدًا وتكلُّ الناعجات أخاشيه
وقد قرب المرمي البعيد زجاؤه ... وسهَّلت الأرض العزاز كتائبه
إذا أنت وجهت الركاب لقصده ... تبينت طعم الماء ذو أَنت شاربه
جديرٌ بأن يستحي الله باديًا ... به ثمَّ يستحي الندى ويراقبه
سما للعلا من جانبيه كليهما ... سموَّ عباب الماء جاشت غواربه
فنوَّل حتى لم يجد من ينيله ... وحارب حتى لم يجد من يحاربه
وذو يقظاتٍ مستمرٍ مريرها ... إذا الخطبُ لاقاه اضمحلت نوائبه
وأين بوجه الحزم عنه وإنما ... مرائي الأمور المشكلات تجاربهُ
أرى الناس منهاج الندى بعدما عفت ... مهايعه المثلى ومحَّت لواحبه
ففي كل نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه
1 / 8
لتحدث له الأَيام شكر خناعة ... تطيب صضبا نجد به وجنائبه
فوالله لو لم يلبس الدهر فعله ... لأفسدت الماء القراح معائبه
فقد بثَّ عبد الله خوف انتقامه ... على الليل حتى ما تدب عقاربه
يقولون عن الليث ليث خفيةٍ ... نواجذبه مطروزة ومخالبه
وما الليث كلُّ الليث إلا ابن عثرةٍ ... يعيش فواق ناقة وهو راهبه
ويوم أمام الموت دحض وقفته ... ولو خرَّ فيه الدينُ لا نهل كائبه
جلوت به وجه الخليفة والقنا ... قد اتسعت بين الضلوع مذاهبه
شفيت صداه والصفيح من الطلى ... رواءٌ نواحيه عذاب مشاربه
ليالي لم يقعد بسيفك أن يرى ... هو الموت إلا أن عفوك غالبه
فلو انطلقت حربٌ لقالت محقةً ... ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه
ليعلم أنّ الغر من آل مصعب ... غداةَ الوغى وأقاربه
كواكب مجد يعلم الليل أنها ... إذا نجمت باءت بصغر كواكبه
ويا أيها الساعي ليدركَ شأوه ... تزحزحْ قصيًا أسوأ الظن كاذبه
فحسبكَ من نيل المراتب أن ترى ... عليمًا بأن ليست تنال مراتبه
إذا ما ارؤ ألقى بربعك رحله ... فقد طالبته بالنجاحِ مطالبه
وقال يمدح أمير المؤمنين المعتصم بالله أبا اسحاق محمد بن هارون الرشيد ويذكر فتح عمورية
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ ... في حده الحدُّ بين الجد واللعب
بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في ... متونهنَّ جلاءُ الشك والريب
والعلمُ في شهب الأرماح لامعةً ... بين الخمسين لا في السبعة الشهب
أين الراويةُ بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصًا وأَحاديثًا ملفقةً ... ليستْ بنبع إذا عدَّتْ ولا غرب
عجائبًا زعموا الأيام مجفلةً ... عنهنَّ في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناسَ من دهياءَ مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العليا مرتبةً ... ما كان منقلبًا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ... ما دار في فلك منها وفي قطب
لو بينت قطٌ أمرًا قبل موقعه ... لم يخف ما حلّ بالأوثان والصلب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظمٌ من الشعر أو نثر من الخطب
فتحٌ تفتَّح أبوابُ السماءِ له ... وتبرز الأَرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... عنك لمنى حُفلًا معسولة الحلب
أبقيت جدَّ بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في صيب
أمُّ لهم لو رجوا أن تفتدى جعلوا ... فداءها كلَّ أم برة وأب
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدودًا عن أبي كرب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شايت نواصي الليالي وهي لم تشب
بكرٌ فما افترعتها كفُّ حادثة ... ولا ترقَّت إليها همة النوب
حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
أتتهمُ الكربة السوداء سادرةً ... منها وكان اسمها فراجة الكرب
جرى لها الفألُ نحسًا يومَ أنقرة ... إذ غوردت وحشة الساحات والرحب
لمَّا رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الحرابُ لها أعلى من الجرب
كم بين حيطانها من فارسٍ بطلٍ ... قاني الذوائبِ من آبي دم سرب
بسنةِ السيف والخطي من دمهِ ... لا سنةِ الدين والإسلام مختضب
لقد تركتَ أمير المؤمنين بها ... للنار يومًا ذليلَ الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو يضحي ... يقله بها صبحٌ من اللهب
حتى كأنَّ جلابيبَ الدجى رغبت ... عن لونها أو كأنَّ الشمس لم تغب
ضوءٌ من النار والظلماءُ عاكفة ... وظلمةٌ من دخان في ضحى شحب
فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أفلت ... والشمسُ واجبةٌ في ذا ولم تجب
تصرحَ الدهر تصريح الغمام لها ... عن يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جُنُب
لم تطلع الشمسُ فيه يوم ذاك على ... بانٍ بأهلٍ ولم تغرب على عَزَب
ماربعُ ميَّة معمورًا يطيف به ... غيلانُ أبهى ربى من ربعها الخرب
ولا الخدود وقد أدمينَ من خجل ... أشهى إلى ناظرها خدها التراب
1 / 9
سماجةٌ غنيت منا العيونُ بها ... عن كلّ حسنٍ بدا أو منظرٍ عجب
وحسنُ منقلبٍ تبدو عواقبه ... جاءت بشاشته عن سوء منقلب
لم يعلم الكفرُ كمُ من أعصر كمنت ... له المنية بين السمرِ والقضب
تدبيرُ معتصم بالله منتقمٍ ... لله مرتقبٍ في الله مرتهب
ومطعمَ النصرِ لم تكهم أسنته ... يومًا ولا حجبت عن روح محتجب
لم يغزُ قومًا ولم ينهض إلى بلد ... إلاّ تقدمه جيشٌ من الرعب
لو لم يقد جحفلًا يومَ الوغى لغدا ... من نفسه وحدها في جحفل لجب
رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غيرُ الله لم تصب
من بعدِ ما أشبَّوها واثقينَ بها ... والله مفتاحُ باب المعقل الأشب
وقال ذو أمرهم لا مرتعٌ صددٌ ... للسارحينَ وليس الورد من كثب
أمانيًا سلبتهم نجحَ هاجسها ... ظبي السيوف وأطرافُ القنا السلب
إن الحِمامين من بيضٍ ومن سمرٍ ... دلوا الحياتينِ من ماءٍ ومن عشب
لبيتَ صوتًا زبطريًا هرقتَ له ... كأسَ الكرى ورضابَ الخرَّدِ العرب
عداكَ حرَُ الثغورِ المستضامة عن ... برد الثغورِ وعن سلسالها الخصب
أجبته معلنًا بالسيفِ منصلتًا ... ولو أجبتَ بغير السيف لم تجب
حتى تركتَ عمود الشرك منقعرًا ... ولم تعرّج على الأوتاد والطنب
لّما رأى الحربَ رأي العين توفلسٌ ... والحربُ مشتقة المعنى من الحرب
غدا يصرّفٌ الأموال جريتها ... فعزَّهُ البحرُ والتيار ذو العبب
هيهات زعزعت الأرض الوقور به ... عن غزو محتسبٍ لا غزو مكتسب
لم ينفقِ الذهب المربي بكثرتهِ ... على الحصى وبه فقرٌ إلى الذهب
إنَّ الأسود أسودِ الغاب همتها ... يومَ الكريهة في المسلوب لا السلب
ولَّى وقد ألجمَ الخطيُّ منطقه ... بسكته تحتها الاحشاءُ في صخب
أحسى قرابينهُ صرفُ الردى ومضى ... يحثُّ أنجى مطاياه من الهرب
موكلًا بيفاعِ الأرض يُشرِفه ... من خفة الخوفِ لا من خفة الطرب
إن يعدُ من حرها عدوَ الظليم فقد ... أوسعتَ جاحمها من كثرة الحطب
تسعونَ ألفًا كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضوج التين والعنب
يا ربَّ حوباءَ لما اجتُث دابرهم ... طابت ولو ضخمت بالمسك لم تطب
ومغضبٍ رجعت بيض السيوف بهِ ... حيَّ الرضى من دارهم ميت الغضب
والحربُ قائمة في مأزقٍ لججٍ ... تجثو الرجالُ به صغرًا على الركب
كم نيل تحتَ سناها من سنى قمرٍ ... وتحتَ عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها ... إلى المخدرةِ العذراء من سبب
بيضٌ إذا انتضبت من حجبها رجعت ... أحقَّ بالبيضِ أبدانًا من الحجب
خليفةَ الله جازى الله سعيك عن ... جرثومةِ الدين والإسلام والحسب
بصرتّ بالراحة الكبرى فلم ترها ... تُنال إلا على جسرٍ من التعب
إن كان بين صروفِ الدهر من رحم ... موصولةٍ أو ذمامٍ غير منقضب
فبين أيامك اللاتي نُصرت بها ... وبين أيامِ بدر أقرب النسب
أبقيت بني الأصفرِ الممراضِ كاسمِهِم ... صفرَ الوجوهِ وجلّت أوجه العرب
وقال يمدح محمد بن عبد الملك الزيات
ديمةٌ سمحةُ القيادِ سكوبُ ... مستغيثٌ بها الثرى المكروب
لو سعت بقعةٌ لإعظام نعمى ... لسعى نحوَها المكانُ الجديب
لذَّ شؤبوبها وطابَ فلو تس ... طيع قامت فعانقتها القلوب
فهي ماءٌ يجري وماءٌ يليه ... وعزالٍ تّنشا وأخرى تذوب
كشفَ الروضُ رأسه واستسرَّ ... المحل منها كما استسرَّ المريب
أيها الغيثُ حيّ أهلًا بمغدا ... ك وعند السرى وحين تؤوب
لأبي جعفر خلائق تحكيهنَّ ... قد يشبه النجيب النجيب
أنت فينا في ذا الأوان غريب ... وهوفينا في كلِّ وقت غريب
ضاحكٌ في نوائب الدهر طلقٌ ... وملوكٌ يبكون حين تنوب
فإذا الخطب طالَ نالَ الندى ... والبذل منه مالا تنالُ الخطوب
خُلُقُ مشرقٌ ورأي حسامٌ ... ووادٌ عذب وريح جنوب
كلّ يوم له وكل أوانِ ... خُلُقٌ ضاحك ومال كئيب
1 / 10
إن تقاربه أو تباعده ما لم ... تأتِ فحشاءَ فهو منك قريب
ما التقى وفره ونائلهُ مُذ ... كان إلاّ وفرهُ المغلوب
فهو مُدنٍ للجود وهو بغيضٌ ... وهو مقصٍ للمال وهو حبيب
يأخذُ المعتفين قسرًا ولو كفَّ ... دعاهم إليه وادٍ خصيب
غير أنّ الرامي المسددَ يحتا ... طُ مع العلم أنه سيصيب
وقال يمدح حبيش بن المعافى
نُسائلها أيَّ المواطن حلتِ ... وأيَّ بلاد أوطنتها وأيَّتِ
وماذا عليها لو أشارت فودعت ... إلينا بأطراف البنان وأومت
وما كان إلاَّ أن تولت بها النوى ... فولى عزاءُ القلب لما تولت
فأما عيون العاشقين فأسخنت ... وأما عيون الكاشحين فقرت
ولما دعاني البينُ وليتُ إذ دعا ... ولمَّا دعاها طاوعته ولبث
ولم أرَ مثلي كان أوفى بعهدها ... ولا مثلها لم ترعَ عهدي وذمتي
مشوقٌ رمته أسهم البين فانتشى ... صريعًا لها لمَّا رمته فأصمت
ولو أنها غير النوى فوَّقت له ... بأسهمها لم تصمِ فيه وأشوت
كأنّ عليه الدمع ضربة لازبٍ ... إذا ما حمام الأيك غنت
لئن ظمئت أجفانُ عين إلى البكا ... لقد شربت عيني دمًا فتروَّت
عليها سلامُ الله أنّى استقلت ... وأنَّى استقرت دارها واطمأنت
ومجهولةِ الأعلام طامسةِ الصُّوى ... إذا اعتسفها العيسُ بالركب ضلَّت
إذا ما تنادى الركب في فلواتها ... أجابت نداء الركب منها فأصدت
تعسفتُها والليلُ مُلقٍ جرانه ... وجوزاؤه في الأفق لما استقلت
بمفعمة الأنساعِ موجدة القرا ... أمون السرى تنجو إذا العيسُ كلَّت
طموح بأثناءِ الزمام كأنما ... تخالُ بها من عدوها طيفَ جنة
إلى حيث يلقي الجود سهلا منالهُ ... وخيرا مرئٍ شدت إليه وحطت
إلى خير من ساس البرية عدله ... ووطَّد أعلام الهدى فاستقلت
حبيشٌ حبيشٌ بن المعافى الذي به ... أُمِرَّت حبال الدين حتى استمرت
ولولا أبو الليث الهمام لأخلفت ... من الدين أسباب الهدى وارثت
أقر عمود الدين في مستقره ... وقد نهلت منه الليالي وعلّت
ونادى المعالي فاستجابت نداءه ... ولو غيرُهُ نادى المعالي لصُمَّت
ونيطت بحقويه الأمور فأصبحت ... بظلِ جناحيه الأمور استظلت
وأحيا سبيل العدل بعد دثوره ... وأنهج سبلَ الجود حين تعفَّت
ويلوي بأحداثِ الزمان انتقامه ... إذا ما خطوبُ الدهر بالناس ألوت
ويجزيك بالحسنى إذا كنتَ محسِنًا ... ويغتفرُ العظمى إذا النعلُ زُلت
يلَّم اختلالَ المعتفين نواله ... إذا ماملماتُ الزمان ألَّمتِ
إذا ظلماتِ الرأي أسدل ثوبها ... تطلعَ فيها فجره فتجلت
همام وريُّ الزند مستحصدُ القوى ... إذا ما الأمور المشكلات أظلَّت
به انكشفت عنا الغيابة وانفرت ... جلابيبُ جور عَمَّنا واضمحلت
أغرُ ربيط الجأشِ ماضٍ جنانه ... إذا ما القلوب الماضيات ارجحنَّت
نهوضٌ بثقل العبء مضطلعٌ به ... وإن عظمت فيه الخطوب وجلت
تطوعُ له الأيام خوف انتقامهِ ... إذا امتنعت من غيره وتأبت
له كلَّ يوم شملُ مجدٍ مؤلفٍ ... وشملُ ندى بين العفاة مشتت
أبا الليث لولا أنت لانصرم الندى ... وأدركتِ الأحداث ما قد تمنت
أخاف فؤاد الدهر بطُشكَ فانطوت ... على رُعُبٍ أحشاؤه وأجنت
حللت من العزِ المنيف محَلةً ... أقامت بفوديها العلي وأبنَّت
لِيَهنئ تنوجًا أنهم خيرُ أسرة ... إذا أحصيت أولى البيوت وعدت
وأنك منهم في اللباب الذي له ... تطاطأتِ الأحياءُ صُغرًا وذلت
بني لتنوخّ الله مجدًا مؤيدًا ... تَزِلَّ عليه وطأة المتبت
إذا ما حلومُ الناسِ حلمك وازنت ... رجحت بأحلام الرجال وخفت
إذا ما يدُ الأيام مدت بنائها ... إليك بخطبٍ لم تنلك وشُلَّت
وإن أزمات الدهر حَلَّت بمعشر ... أرقت دماءَ المحل فيها فطلَّت
إذا ما امتطينا العيسَ نحوك لم نخف ... عثارًا ولم نخشَ اللتيا ولا اللتي
وقال يمدح مالك بن طوق
1 / 11
أقول لمرتادِ الندى عندَ مالكِ ... تعوذ بجدوى مالكٍ وصلاته
فتىً جعلَ المعروفَ من دون عرضه ... سريعًا إلى المُمتاح قبل عِداتهِ
ولو قَصَّرت أمواله عن سماحِهِ ... لقاسم من يرجوه شطرَ حياته
ولو لم يجد في قسمةِ العمر حيلةً ... وجاز له الأعطاءُ من حسناته
لجاد بها من غيرِ كفرٍ بربه ... وواساهمُ من صومِهِ وصلاته
وقال أيضًا يمدحه
قف بالطلولِ الدارساتِ عُلاثا ... أضحت حبالُ قطينهنَّ رثاثا
قسمَ الزمانُ ربوعها بين الصَّبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا
فتأبدت من كلّ مخطفةِ الحشا ... غيداءَ تُكسى يارقًا ورعاثا
كالظبية الأدماء صافت فارتعت ... زهرَ العرارِ الغضِ والجثجاثا
حتى إذا ضربَ الخريفُ رواقه ... سافت بريرَ أراكةٍ وكباثا
سيافةُ اللحظات يغدو طرفها ... بالسحرِ في عقَدِ النهى نفاثًا
زالت بعينيكَ الحمولُ كأنها ... نخلٌ مواقر من نخيل جواثا
يومَ الثلاثا لا أزال لبينهم ... كدرَ الفوآدِ لكل يوم ثُلاثا
إن الهموم الطارقات موهنًا ... منعت جفونك أن تذوق حثاثا
ورأيت ضيف الهم لا يرضى قرىً ... إلا مداخلة الفقار دلاثا
شجعاء جرتها الذميل تلوكه ... أصلًاإذا راح المطلي غراثا
أَجدًا إذا وقفت المهارى أرقلت ... رقلًا كتحريق الغضاحثحاثا
طلبت فتى جُشيمَ بن بكر مالكا ... ضرغامها وهزبرها الدِلهَاثا
ملك إذا استسقيت مزنَ بنائه ... قتل الصدى وإذا استغيث أغاثا
قد جربته تغلبُ ابنة وائلٍ ... لا خاترًا غدرًا ولا نكَّاثا
مثل السبيكة ليس عن أعراضها ... بالغيب لا ندُسًا ولا بحاثا
طرح القذى عنه وشذَّب سيفهُ ... عن عصيها الخُرَّابَ والخباثا
ضاحي المحيَّا للهجير وللقنا ... تحت العجاج تخاله محراثا
هم مزقوا عنهم سبائب حلمِهِ ... وإذا أبو الاشبال أُحرِج عاثا
لولا القرابة جاسهم بوقائع ... تنسي الكُلابَ ومَلهمًا وبُعاثا
بالخيل فوق متوتهنَّ فوارسٌ ... مثلُ الصقورِ إذا لقينَ بُغاثا
لكن قراكم صفحةُ من لم يزل ... وأبوه فيكم رحمةً وغياثا
عفَّ الإزار تنال جارةُ بيتهِ ... أرفادهُ وتُجنبُ الأرفاثا
عمرو بن كلثوم بن مالكٍ الذي ... تركَ العلى لبني أبيه تراثا
ردعوا الزمان وهم كهولٌ جلَّةٌ ... وَسَطوا على أحداثهِ أحداثا
ألقى عليه نجارهُ فأتى بهِ ... يقظان لا روعًا ولا ملتاثا
تركوا مواعده إذا وَعدُ امرىءٍ ... أمسى كأحلام الكرى أضعاثا
وترى تَسحَّبَنا عليه كأننا ... جئناه نطلبُ عنده ميراثا
كم مسهب بك لو عدتك قِلاصه ... تبغي سواكَ لأوعشت إيعاثا
يامالك ابن المالكين أرى الذي ... كنا نؤمل من إيابك راثا
لولا اعتمادك كنتُ في مندوحةٍ ... عن برقعيدَ وأرضِ باعِيناثا
والكامخيَّة لم تكن لي موطناَ ... ومقابر اللذاتِ من فبراثا
لم آتها من أيّض وجهٍ جئتها ... إلاّ حسبتُ بيوتها أجداثا
بلدُ الفلاحةِ لو أتاها جرولٌ ... أعني الحطيئة لاغتدى حرَّاثا
تصدا بها الأفهامُ بعد صقالها ... وتردُ ذكرات العقولِ إناثا
أرضٌ خلعتُ اللهوَ خلعي خاتمي ... فيها وطلَّقت السرورَ ثلاثا
وقال يمدح خالد بن يزيد السيباني
طلَ الجميع لقد عفوتَ حميدا ... وكفى على رُزئي بذاكَ شهيدا
دِمَنٌ كأنّ البين أصبح طالبًا ... دِمَنًا لدى آرامها وحقودا
قربتَ نازحة القلوب من الجوى ... وتركتَ شأوَ الدمع فيكَ بعيدا
خضلًا إذا العبراتُ لم تبرح لها ... وطنًا سرى قلقَ المحلّ طريدا
أمواقف الفتيان تطوي لم تزر ... شوقًا ولم تندب لهنَّ صعيدا
أذكرتنا الملكَ المضللَ في الهوى ... والأعشيينِ وجرولًا ولبيدا
حلُّوا بها عقدَ النسيب ونمنموا ... من وشيها رجزًا بها وقصيدا
راحت غواني الحي عنكَ غوانيًا ... يلبسنَ نأيًا تارةَ وصدودا
1 / 12
من كلّ سابغةِ الشباب إذا بدت ... تركت عميدَ القريتين عميدا
أزرينَ بالمردِ الغطارف بدَّنًا ... غيدًا ألفنهمُ غطارف غيدا
أحلى الرجالِ من النساءِ مواقفًا ... من كان أشبههم بهنَّ خدودا
فاطلب هدوًا في التقلقلِ واستثر ... بالعيسِ من تحت السهادِ هجودا
من كلّ معطية على علل السُّرى ... وخدًا يبيتُ النومُ منه شريدا
تخدي بمنصلتِ يظلّ إذا ونى ... ضرباؤه حِلسًا لها وقتودا
جعل الدجى جملًا وودع راضيًا ... بالهونِ يتخذُ القعود قعودا
طلبت ربيع ربيعةَ المهمي لها ... فتفيأت ظلًا لها ممدودا
بكريَّها علويها صعبيها ال ... حصنيَّ شيبانيها الصّنديدا
ذُهليها مُريّها مطرّيها ... يُمنى يديها خالدَ بنَ يزيدا
نسبٌ كأنّ عليه من شمس الصحىِ ... نورًا ومن فلقِ الصباح عمودا
عُريانُ لا يكبو دليلٌ من عَمى ... فيه ولا يبغي عليه شهودا
شرفٌ على أولى الزمانِ وإنما ... خَلَقُ المناسب ما يكونُ جديدا
لو لم تكن من نبعةٍ نجدّيةٍ ... عُلوّية لظننتُ عودكَ عودكَ عودا
مَطرٌ أبوك أبو أهلةِ وائلٍ ... ملأ البسيطةَ عُدَّة وعديدا
أكفاءهُ تلدُ الرجالُ وإنما ... ولدَ الحتوف أساودًا وأسودا
رُبدًا وماسدةً على أكتادها ... لِبَدٌ تخالُ فليلهنَّ لبودا
ورثوا الأَّبوة والحظزوظ فأصبحوا ... جمعوا جدودًا في العلى وجدودا
وقر النفوسِ إذا الكواكب قَعضبٍ ... أردين عفريتَ الوغى المرّيدا
زُهر إذا طلعت على حجب الكلى ... نحست وإن غابت تكون سعودا
ما إن ترى إلاَّ رئيسًا مقصدًا ... تحت العجاج وعاملا مقصودا
فزعوا إلى الحلق المضاعب وارتدوا ... فيها حديدًا في الشؤون حديدا
ومشوا أمام أبي يزيدَ وحولهُ ... مشيًا يهدَّ الرسيات وئيدا
يغشونَ أسغحهم مذانبَ طعنةٍ ... سفحًا وأشنعَ ضربة أُخدودا
ما إن ترى الأحساب بيضًا وُضَّحًا ... إلاّ بحيث ترى المنايا سواد
لبس الشجاعة إنها كانت له ... قِدمًا نشوقًا في الصَّبا ولدودا
بأسًا قبيليًا وبأس تكرم ... جَمَّ وبأسَ قريحةِ مولودا
وإذا رأيتَ أبا زيدٍ في ندى ... ووغىً ومبدي غارةٍ وميعدا
يُقري مرجيه مُشاشةَ مالهِ ... وشبا الأسنة ثُغرةً ووريدا
أيقنت أن من السماحِ شجاعةً ... تُدعي وأنَّ من الشجاعة جودا
وإذا سرحت الطرف نحو قبابِهِ ... لم تلق إلاَّ نعمةً وحسودا
ومكارمًا عُتُق النجارِ تليدة ... إن كان هضبُ عمايتينِ تليدا
ومتى حللت به أنالكَ جهده ... ووجدتَ بعد الجهد فيه مزيدا
متوقدٌّ منه الومان وربَّما ... كان الزمان بآخرين بليدا
أبقى يزيدُ ومزيدٌ وأبوهما ... وأبوه ركنكَ في الفخار شديدا
سَفلوا يرونَ الذكرَ عقبًا صالحًا ... ومضَوا يعدون الثناءَ خلودا
إنّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل الجمان إذا أصاب فريدا
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألفتهُ ... بالشعرِ صار قلائدا وعقودا
في كلّ معتركٍ وكل مقامةٍ ... يأخذن منه ذِمةً وعهودا
وإذا القصائدُ لم تكن حُفراءها ... لم ترضَ منها مشهدًا مشهودا
من أجل ذلك كانت العربُ الألى ... يدعون هذا سؤددًا محدودا
وتندُّ عندهم العلى إلاَّ عُلى ... جُعلت لها مِررُ القصيد قيودا
وقال يمدحه
يقولُ أناسٌ في حُبيناء أبصروا ... عِمارة رحلي من طريفٍ وتالدِ
أصادفت كنزًا أم صبحتَ بغارةٍ ... ذوي غرةٍ حاميهمُ غير شاهد
فقلتُ لهم: لا ذا ولا ذاك ديدني ... ولكنني أقبلت من عند خالد
جذبتُ نداه غدوة السبت جذبةً ... فخرَّ صريعًا بين أيدي القصائد
فأبتُ بنعمى منه بيضاء لدنةٍ ... كثيرة قرحٍ في قلوب الحواسد
هي الناهد الريّا إذا نعمة امرئٍ ... سواه غدت ممسوحةً غير ناهد
فَرَعتُ عِقاب الأرض والشعر مادحًا ... له فارتقى بي في عقاب المحامد
فألبسني من أمهات تِلادهِ ... وألبستُهُ من أمهات قلائدي
1 / 13
وقال يمدح حفص بن عمر الأزدي
عفت أربعُ الحلاّت للأربع الملد ... لكل هضيم الكشح مجدولة القدِ
لِسلمى سلامانٍ وعمرةِ عامرٍ ... وهند بني هندٍ وسعدى بني سعدِ
ديارٌ هراقت كلَّ عينٍ شحيحةٍ ... واوطنت الأحزان كلَّ حشًا جلد
فعوجا صدور الأرحبي وأسهلا ... بذاك الكثيب السهل والعلم الفرد
ولا تسألاني عن هوى قد طعمتما ... جوته فليس آلوجدُ إلاَّ من الوجد
حططتُ إلى الأرض الجديدي أرحلي ... بمهريةٍ تنباعُ في السير أو تخدي
تؤم شهاب الأزد حفصًا فإنهم ... بنو الحرب لا ينبوا ثراهم ولا يكدي
ومن شك أن الجود والبأس فيهمُ ... كمن شك في أنَّ الفصاصة في نجد
أنختُ إلى ساحاتهم وجنابهم ... ركابي فأضحى في ديارهمُ وفدي
إلى سيفهم حفص ومازال يُنتضى ... لهم مثلُ ذاك السيف من ذلك الغمد
فلم أغش بابًا أنكرتني كلابُهُ ... ولم أتشبث بالوسيلة من بُعد
فأصبحتُ لاذل السؤال أصابني ... ولا قدحت في خاطري روعة الرد
يرى الوعد أخزى العار إن هو لم تكن ... مواهبهُ تأتي مقدَّمة الوعد
فلو كان مايعطيه غيثًا لأمطرت ... سحائبه من غير برقٍ ولا رعد
دَرّيةُ خيلٍ لا تزال لدى الوغى ... له مخلبٌ وردٌ من الأسد الورد
من القومُ جعدٌ أبيضُ الوجه والندى ... وليس بنانٌ يحتدى منه بالجعد
فأبتُ وفد مجت خرسانُ داءها ... وقد نغلت أطرافها نغل الجلد
وأوباشها خزرٌ إلى العرب الألى ... لكيما يكون الحرُ من خولِ العبد
ليالي بات العزُ في غير بيتهِ ... وعُظّمِ وغدُ القوم في زمن وغد
وما قصدوا إذ يسحبون على الثرى ... برودهمُ إلاّ إلى وارث البرد
وراموا دمَ الإسلام لامن جهالةٍ ... ولا خطأٍ بل حاولوه على غمد
فمجوا به سمًا زعافا ولو نأت ... سيوفك عنهم كان أحلى من الشهد
ضمت إلى قحطان عدنان كلها ... ولم يجدوا إذا ذاك من ذاك من بد
فاضحت بك الأحياء أجمع ألفة ... وأحكم في الهيجاء نظمًا من العقد
وكنت هناك الأحنف الطب في بني ... تميم بن مر والمهلب في الأزد
وكنت أبا غسان مالك وائل ... عشية دانى حلقة الحلف بالعقد
ولما أماتت أنجم العرب الدجى ... سرت وهي أتباع لكوكبك السعدي
وهل أسد العريس إلا الذي له ... فضيلته في حيث مجتمع الأسد
فهم منك في جيش قريب قدومه ... عليهم وهم من يمن رأيك في جند
ووقرت يا فوخ الجبان على الردى ... وزدت غداة الروع في نجدة النجد
رأيت حروب الناس هزلًا وإن علا ... سناها وتلك الحرب معتدة الجد
ولا فئة إلا القنا ونأيتم ... فما لكم إلا الأسنة من زرد
ولا مدد إلا السيوف لوامعًا ... ولا معقل غير المسومة الجرد
فيا طيب مجناها وبارد وقعها ... على الكبد الحرى وزاد على البرد
ورفعت طرفًا كان لولاك خاشعًا ... وأوردت ذزد العز في أول الورد
فتى برجت هماته وفعاله ... به فهو في جهد وما هو في جهد
متت إليه بالقرابة بيننا ... وبالرحم الدنيا فاغنت عن الود
رأى سالف القربى وشابك آله ... أحق بان يرعاه في سالف العهد
فيا حسن ذاك البر إذا أنا حاضر ... ويا طيب ذاك القول والذكر من بعدي
وما كنت ذا فقر إلى صلب ماله ... وما كان حفص بالفقير إلى حمدي
ولكن شكري قلادة سؤدد ... فصاغ لها سلكًا بهيا من الرفد
فما فاتني ما عنده من حبائه=ولا فاته من فاخر الشعر ما عندي
وكم من كريم قلبه ... بذاك الثناء الغض في طرق المجد
وقال يمدح المعتصم وفيها من بديع الوصف والتشبيه المرقص المطرب
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر ... وغدا الثرى في حليه يتكسر
نزلت مقدمة المصيف حميدة ... ويد الشتاء جديدة لا تكفر
لولا الذي غرس الشتاء بكفه ... قاسى المصيف هشائمًا لا تثمر
كم ليلة آسى البلاد بنفسه ... فيها ويوم وبله مثعنجر
مطر يذوب الصحو منه وبعده ... صحو يكاد من الغضارة يقطر
1 / 14
غيثان فالأنوار غيث ظاهر ... لك وجهه والصحو غيث مضمر
وندى إذا ادهنت به لمم الثرى ... خلت السحاب أتاه وهو معذر
أربيعنا في تسع عشرة حجة ... حقًا لهنك للربيع الأزهر
ما كانت الأيام تسلب بهجة ... لو أن حسن الروض كان يعمر
أو لا ترى الأشياء إن هي غيرت ... سمجت وحسن الأرض حين تغير
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه ... زهر الربى فكأنما هو مقمر
دنيا معاش للورى حتى إذا ... حل الربيع فإنما هي منظر
أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نورًا تكاد له القلوب تنور
من كلَّ زاهرةٍ ترقرقُ بالندى ... فكأنها عينٌ إليك تحدر
تبدو ويحجبها الجميم كانها ... عذراء تبدو تارةً وتخفر
حتى غدت وهداتها ونجادُها ... فئتين في حلل الربيع تبتخر
مصّفرة محمرةً فكأنها ... عُصبٌ تيمن في الوغى وتمضَّر
من فاقعٍ غض النبات كأنه ... در يشقق قبل ثم يزعفر
أو ساطعٍ من حمرةٍ فكأن ما ... يدنو إليه من الهواء معصفر
صبغُ الذي لولا بدائع لطفه ... ماعاد أصفر بعد إذ هو أخضر
خُلُقٌ أطلَّ من الربيع كأنه ... خُلق الإمام وهدية المتنشر
في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن النبات الغضّ سرجٌ تزهر
تُنسى الرياض، وما يروّض فعله ... أبدًا على مر الليالي يُذكر
إن الخليفة حين يُظلمُ حادثٌ ... عين الهدى وله الخلاقة محجر
كثرت به حركاتها ولقد تُرى ... في فترةٍ وكأنّها تتفكر
مازلت أعلم أن عقدة أمرها ... في كفّه مذ خلّيت تتحير
بالثامن المستخلف اتسق الهدى ... حتّى تخير رشده المتحير
سكنَ الزمان فلا يدٌ مذمومة ... للحادثات ولا سَوَامٌ تذعر
نظم البلاد فأصبحت وكأنها ... عِقدٌ كأنّ العدل فيه جوهر
لم يبق مبدىً موحشٌ إلاّ ارتوى ... من ذكره فكأنما هو محتضرُ
ملكٌ يضلُّ الفكر في أيامه ... ويقلُّ في نفحاته ما يكثر
فلَيَعسُرنَّ على الليالي بعدها ... أن يبتلى بصروفهنَّ المعسر
وقال يمدح أحمد بن المعتصم وهي من غرر القصائد وفائق الشعر
ما في وقوفكّ ساعةً من باسِ ... نقضي ذمام الأربعِ الأدراس
فلعلّ عينك أن تعين بمائها ... والدمعُ منه خاذلٌ ومواس
لا يُسعدُ المشتاق وسنانُ الهوى ... يبسُ المدامع باردُ الأنفاس
إنّ المنازل ساورتها فُرقةٌ ... أخلت من الآرام كلَّ كِناس
من كلّ ضاحكةِ الترائب أرهفت ... إرهاف خُوط البانة الميّاس
بدرٌ أطاعت فيك بادرة النوى ... ولعًا وشمسٌ أولَعت بشماس
بِكرٌ إذا ابتسمت أراك وميضها ... نور الأقاح برملةٍ ميعاس
وإذا مشت تركت بقلبك ضعفَ ما ... بحليّها من كثرةِ الوسواس
قالت وقد حمَّ الفراق فكأسه ... قد خولط الساقي به والحاسي
لا تنسين تلك العهود فإنما ... سُمّيت إنسانًا لأنك ناس
إن الذي خلق الخلائق قاتها ... أقواتها لتصرفِ الاحراس
فالأرض معروف السماء قرىً لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس
القومُ ظلُّ الله أسكن دينهُ ... فيهم وهم جبل الملوك الراسي
في كلّ جوهرة فرندٌ مشرقٌ ... وهم الفرند لهؤلاء الناس
هدأت على تأميل أحمد همتي ... وأطاف تقليدي به وقياسي
بالمجتبي والمصطفى والمشتري ... للحمد والحالي به والكاسي
والحمد بُردُ جمالٍ اختالت بهِ ... غررُ الفعال وليس برد لباس
وكأن بينها رضاع الثدي من ... فرط التصافي أو رضاع الكاس
فرعٌ نما من هاشمٍ في تربةٍ ... كان الكفيء لها من الاغراس
لا تهجرُ الانواء منبتها ولا ... قلبُ الثرى القاسي عليها قاسِ
نور العراةِ نوره ونسيمهُ ... نشرُ الخزامى في اخضرار الآس
أبليت هذا المجد ابعد غايةٍ ... فيه وأكرمَ شيمةٍ ونحاس
إقدامُ عمرو من سماحة حاتم ... في حلن أحنف في ذكاء إياس
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في الندى والباس
1 / 15
فالله قد ضربَ الأقلَّ لنوره ... مثلًا من المشكاةِ والنبراس
إن تحو خصلَ المجد في أنف الصّبا ... يا ابن الخلائف يا أبا العباس
فلربّ نارٍِ منكمُ قد انتجحت ... بالليل من قبسٍ من الأقباس
ولربّ كفلٍ في الحروب تركتهُ ... لصعابها حِلسًا من الاحلاس
أمددته في العُدم والعدم الجوى ... بالجود والجودُ الطبيب الآسي
آنسته بالدهر حتّى أنه ... ليَظُنُّهُ عُرسًا من الأعراس
غلب السرور على همومي بالذي ... أظهرت من برّي ومن إيناسي
أملٌ من الآمال أحكم فتله ... فكأنه مرسٌ من الامراس
عدلَ المشيبُ على الشباب ولم يكن ... من كبرةٍ لكنه من ياس
أثرُ المطالب في الفؤآد وإنّما ... أثرُ السنين ووسمها في الراس
فالآن حين غرستُ في كرم الثرى ... تلك المنى وبنيتُ فوقَ أساس
وقال يرثي محمد بن حميد الطوسي وهي من غرر المراثي
كذا فاليجلَّ الخطبُ وليفدحِ الامرُ ... فليسَ لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
توفيت الآمال بعدَ محمدٍ ... واصبح في شغل عن السفر السفرُ
وما كان إلاّ مالَ من قلَّ ماله ... وذخرًا لمن أمسى وايس له ذخر
وما كان يدري مجّتدي جود كفه ... إذا ما استهلت أنه خلق العسر
ألا في سبيل الله من عُطّلت له ... فجاج سبيل الله وانثغر الثغر
فتىً كلّما فاضت عيونُ قبيلةٍ ... دمًا ضحكت عنه الأحاديث والذكر
فتىً دهره شطرانِ فيما ينوبه ... ففي بأسهِ شطرٌ وفي جوده شطرٌ
فتىً مات بين الطعنِ والضربِ ميتةً ... تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وما مات حتى مات مضربُ سيفه ... من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
وقد كان فوتُ الموت سهلا فرده ... إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُق الوعر
ونفسٌ تعافُ العار حتّى كأنما ... هو الكفر يوم الورع أودونه الكفر
فأثبت في مستنقعِ الموتِ رجلهُ ... وقال لها من تحتِ أخمصك الحشر
غدا غدوة والحمد نسجُ ردائه ... فلم ينصرف إلاّ وأكفانه الأجر
تردَّى ثيابَ الموت حمرًا فما دجا ... لها الليلُ إلاّ وهي من سندسٍ خضر
كأن بني نبهان يومَ وفاتهِ ... نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدر
يُعزون عن ثاوٍ تعزى به العلى ... ويبكي عليه البأس والجودُ والشعر
وانى لهم صبرٌ عليه وقد مضى ... إلى الموت حتَّى استشهد اهو والصبر
فتىً كان عذب الروح لا من غضاضةٍ ... ولكنَّ كبرًا أن يقال به كِبر
فتىً سلبتهُ الخيلُ وهو حِمىً لها ... وبزته نار الحربِ وهو لها جمر
وقد كانت البيض المآثير في الوغى ... بواتر فهي الآن من بعده بُتر
أمن بعدِ طيّ الحادثات محمدًا ... يكونُ لأثواب الندى أبدًا نشر
إذا شجرات العرفِ جذت أصولها ... ففي أيّ فرع يوجدُ الورق النضر
لئن أبغض الدهرُ الخؤونُ لفقده ... لعهدي به ممّن يُحب له الدهر
لئن غدرت في الورع أيامهُ به ... فما زالت الايامُ شيمتها الغدر
لئن لبست فيه المصيبةَ طيءٌّ ... فما عريت منها تميمٌ ولا بكر
كذلك ما ننفكَّ نندب هالكًا ... يشاركنا في فقده البدر والحضر
سقى الغيثُ غيثًا وارتِ الأرضُ شخصه ... وإن لم يكن فيه سحابٌ ولا قطر
وكيف احتمالي للغيوث صنيعةً ... بإسقائها قبرًا وفي لحده البحر
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبق روضةٌ ... غداةَ ثوى إلاّ اشتهت أنها قبر
ثَوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمرُ صرفَ الدهر نائله الغمر
عليكَ سلام الله وقفًا فإنني ... رأيتُ الكريم الحرَّ ليس له عمر
وقال يمدح أبا سعيد محمد بن يوسف
أما أنه لولا الخليطُ المودّع ... وربع خلا منه مصيف ومَربعُ
لرُدت على اعقابها أريحية ... من الشوقِ واديها من الدمع مترع
لحقنا بأخرهم وقد حوَّم الهوى ... قلوبًا عهدنا طيرها وهي وُقّع
فرُدت علينا الشمس والليلُ راغمٌ ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
نضا ضوؤها صبغ الدجنّة وانطوى ... لبهجتها ثوبُ السماءِ المجزَّع
1 / 16
فوالله ما أدري أأحلام نائمٍ ... ألمت بنا أم كانَ في الركب يوشع
وعهدي بها تُحيي وتُميته ... وتشعبُ أعشارَ الفؤاد وتصدع
واقرعُ بالعتبى حُميّا عتابها ... وقد تستقيد الراح حين تُشعشع
وتقفو لي الجدوى وإنّما ... يروقك بيتُ الشعر حين يُصرع
ألم ترى آرامَ الظباء كأنما ... رأت بي سيدَ الرملِ والصبح أدرع
لئن جزعَ الوحشيُّ منها لرؤيتي ... لإنسيها من شيب رأسي أجزع
غدا الهمُّ مخنطا بفوديَّ خطةً ... طريق الردى منها إلى النفس مهيع
هو الزورُ يجفى والمعاشر يحتوى ... وذو الإلف يُقلى والجديدُ يرقّع
له منظرٌ في العين أبيضُ ناصعٌ ... ولكنه في القلب أسودُ أسفح
ونحن نرجّيه على الكره والرضى ... وانف الفتى من وجهه وهو أجدع
لقد ساسنا هذا الزمانُ سياسةً ... سُدىً لم يسسها قبل عبدٌ مجدَّع
تروحُ علينا كلّ يوم وتغتدي ... خطوبٌ كان الدهر منهنَّ يصرع
حلت نطفٌ منه لنكسٍ وذو الحجا ... يُداف له سمٌّ من العيش منقع
لقد آسف الأعداء مجدُ ابن يوسف ... وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مُولع
أخذتُ بحبلٍ منه لمّا لويته ... على مِررِ الأيام ظلت تقطع
هو السيلُ إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتادهُ من جانبيه فيتبع
ولم أرى نفعًا عند من ليس ضائرًا ... ولم أر ضرًا عند من ليس ينفع
يقول فيُسمع ويمضي فيسرعُ ... ويضربُ في ذات الإله فيوجع
مُمرُّ له من نفسه بعضُ نفسه ... وسائرها للحمد والأجر أجمع
رأى البخل من كلٍّ فظيعًا فعافه ... على أنّه منه أمرُّ وأفظع
وكلُّ كسوفٍ في الدراري شنعة ... ولكنّه في الشمسِ والبدر أشنع
معادُ الورى بعد الممات وسيبُه ... معادٌ لنا قبل الممات ومرجع
له تالدٌ قد وقَّر الجودجُ هامّه ... فقرّت وكانت لا تزال تروع
إذا كانت النعمى سلوبًا من امرئٍ ... غدت من خليجي كفهِ وهي مُتبع
وإن عثرت سودُ الليالي وبيضُها ... بوحدته ألفيتهُ وهو مجمعِ
وإن حفرت أموالُ قومٍ أكفَهم ... من النبل والجدوى فكفّاه مقطع
يومٍ يظلُ العز يحفظ وسطه ... بسمرٍ العوالي والنفوس تضيعُ
مصيف من الهيجا ومن جاحم الوغى ... ولكنهُ من وابل الدمِ مربع
عبوسٍ كسا أبطالهُ كل قونس ... ترى الموت فيه وهو أقرع انزع
وأسمر محمرَّ العوالي يؤمه ... سنانٌ بحبات القلوب ممنع
من اللائي يشربن النقيع من الكُلى ... غريضًا ويروى عندهنّ فينقع
شققت إلى جباره حومةَ الوغى ... وقنَّعتهُ بالسيف وهو مقنع
أظلتك آمالي وفي البطش قوةٌ ... وفي السهم تسديدٌ وفي القوس منزع
وإن الغنى لي ولو لحظت مطالبي ... من الشعر إلا في مديحك أطوع
وإنك لوز أهزلت في المحلِ لم تضع ... ولم ترعَ إن أهزلت والروض ممرع
رأيتُ رجائي فيك وحدك همة ... ولكّنه في سائر الناس مطمع
وكم عاثرٍ منا أخذت بضبعِهِ ... فأضحى له في قلةِ المجد مطلع
فصار اسمه في النابئات مدافعًا ... وكانَ اسمه من قبلُ وهو مدَّفع
وما السيف إلاّ زبرةٌ لو تركته ... على الحالةِ الأولى لما كان يقطع
فدونكها لولا ليانٌ نسيبها ... لظلَّت صِلابُ الصخر منها تصدع
لها أخواتٌ قبلها قد سمعتها ... وإن لم ترُغ بي مدني فستسمع
وقال في الفخر
أنا ابنُ الدين استرضع الجودُ فيهمُ ... وسُمّيَ فيهم وهو كهلٌ ويافع
نجوم طواليعٌ جبالٌ فوارعٌ ... غيوثٌ هواميعٌ سيولٌ دوافع
مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرةِ ما أو صوابهنّ شرائع
فأيّ يدٍ في المحل مدت ولم تكن ... لها راحةٌ من جودهم واصابيع
همُ استدعوا المعروف محفوظَ مالنا ... فضاعَ وما ضاعت لدينا الودائع
بها ليلُ لو عانيت فيض أكفهم ... لأيقنت أنّ الرزق في الأرض واسع
إذا خفقت في الأرض أرواح جودهم ... حداها النَّدى واستنشقها المطامع
رياحٌ كريح العنبرِ الغضّ في الندى ... ولكنها يوم اللقاء زعازع
1 / 17
هي السمُّ ما تنفك في كلّ بلدة ... تسيلُ به أرماحهم وهو ناقع
أصارت لهم أرض العدو قطائعًا ... نفوسٌ لحدّ المرهفات قطائع
بكلّ فتىً ما شاب من هول وقعة ... ولكنّه قد شِبنَ منه الوقائع
إذا ما أغار وأفاحتوا مالَ معشرٍ ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائع
فتعطي الذي تعطيهمُ الخيل والقنا ... أكفٌّ لإرث المكرماتِ موانع
وقال يمدح أبا الحسن موسى بن عبد الملك
قِرى دارهم مني الدموعُ السوافكُ ... وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالكُ
وإن بكرت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانبُ من أحبابنا وعواتك
سقت ربعهم لا بل سقت منتواهم ... منم الأرض أخلاف السحاب الحواشك
والبسهم عصب الربيع ووشيهُ ... ويمنته نبتُ الثرى المتلاحك
إذا غازل تالروض الغزالة نشّرت ... زرابيَّ في اكنافه ودرانكِ
إذا الغيث غادى نسجه خلت أنَّه ... أتت حقيبةٌ حرسٌ له وهو حائك
ألكني إلى حيَّ الاراقم إنّه ... من الطائرِ الأحشاء تُهدي المآلك
كُلو الصبر غضًا واشربوه فأنكم ... أثرتم بعير الظلم والظلمُ بارك
أتاكم سلسل الغاب في صدر سيفه ... سنىً لدجى الإظلام والظلمُ هاتك
إذا سِيلَ سَدُّ العذر من صلب ماله ... وإن همَّ لم تُسدد عليه المسالك
ركوبٌ لإثباج المهالك عالمٌ ... بأن المعالي دونهنَّ المهالك
ألحَّ وما حكمتم وللقدر التقى ... غريمان في الهيجا مُلحٌ وماحك
هو الحارث الناعي بُحيرًا وإن يُدَن ... له فهو إشفاقًا زهيرٌ ومالك
رقاحيَّ حربٍ طالما انقلبت له ... قساطلُ يومِ الورع وهي سبائك
ومستنبطٌ في كلّ يوم من الوغى ... قليبًا رشاءاها القنا والسنابك
مطلٌ على الروح المنيع كأنّه ... لصرف المنايا من النفوس مُشارك
فما تتركُ الايام من هو آخذٌ ... ولا تأخذُ الأيامُ من هو تارك
عفوٌ إذا لم يثلمِ العفو عزمه ... وذو تُدرأٍ بالفاتك الخرقِ فاتك
ربيب ملوك ارضعته ثُديَّها ... وسِمعٌ تربته الرجال الصعاليك
ولو لم يُكفكف خليه عركتكم ... بأثقالها عرك الأديمِ المعارك
ولولا تقاهُ عاد بيضًا مُفلقًا ... بأُدحيّهِ بيضُ الخدودِ التّرائك
ولاصطُفيت شولٌ فظلت شواردًا ... قرومٌ عِشارٌ مالهنَّ مبارك
إذًا للبستم عار دهرٍ كأنما ... لياليه من بين الليالي عوارك
ولا ستُلبت فرشٌ من الأمن تحتكم ... هي المثلُ في لينٍ بها والأرائك
ولكن أبى أن يُستباح بكفهِ ... سنامكم من قومكم وهو تامك
وأن تصبحوا تحت الأظلّ وأنتم ... غواربُ حَيَّي تغلبٍ والحوارك
فتنجذم الأسبابُ وهي مُغامرةٌ ... وتنقطع الأرحامُ وهي شوابك
فلا تكفُرُنَّ الصامتيّ محمدًا ... أيادي شفعًا سيبها متدارك
أهبَّ لكم ريح الصفاء جنائبًا ... رُخاءً وكانت وهي نكبٌ سواهك
فردَّ القنا ظمآنَ عنكم وأغمدت ... على حرّها بيض السيوف البواتك
فآبت على سعد السعود برحله ... عتاق المذاكي والقالصُ الرواتك
غدا وكأنّ اليوم من حسن وجهه ... وقد لاح بين البيض والبيض ضاحك
حياتكَ للدنيا حياةٌ ظليلةٌ ... وفقدكَ للدنيا فناءٌ مُواشِك
متى يأتك المقدارُ لا تُدعَ هالكًا ... ولكن زمانٌ غالَ مِثلك هالك
وقال يمدح المعتصم بالله
فحواك عينٌ على نجواك يا مذلُ ... حتام لا يتقضى قولُك الخَطِلُ
وإنّ أسمج من تشكو إليه هوىً ... من كان أحسن شيء عنده العذلُ
ما أقبلت أوجه اللذات سافرة ... مذ ادبرت باللوى أيامنا الأول
إن شئت أن لا ترى صبرًا لمصطبرٍ ... فانظر على أيِّ حال أصبح الطلل
كأنما جادَ مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
ولو تراهم وإيانا وموقفنا ... في موقف البينِ لاستهلالنا زَجَلُ
من حرقة أطلقتها عبرةٌ أسرت ... قلبًا ومن غَزل من نحره عذلَ
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرٌ ... عينٌ طوتهنَّ في أحشائها الكلل
1 / 18
فرغن للشجو حتَّى ظلّ كلُّ شج ... حران في بعضه عن بعضه شغُل
طُلَّت دماءٌ هريقت عندهنَّ كما ... طلت دماءُ هدايا مكة الهمل
هانت على كلّ شيء فهو يفكها ... حتى المنازل والاحداج والإبل
يخزي رُكامَ النقا ما في مآزرها ... ويفضح الكحلَ في أجفانها الكحل
تكاد تنتقلُ الارواح لو تُركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل
بالقائم الثامن المستخلف اعتدلت ... قواعدُ الملك ممتدًا لها الطّولُ
بيمن معتصمٍ بالله لا أودٌ ... بالدين مذ ضم قطريه ولا خلل
يهني الرعية أنَّ الله مقتدرًا ... أعطاهم بأبي إسحاق ما سألوا
لو كان في عاجلٍ من آجل بدلٌ ... لكان في وعدهِ من رفدهِ بدل
تغايرَ الشعر فيه إذ سهرتُ له ... حتى ظننتُ قوافيه ستقتتل
لولا قبولي نصح العزم مرتجلًا ... لراكضاني إليه الرحلُ والجملُ
له رياضُ ندىً لم يُكبِ زهرتها ... خُلفٌ ولم تتبختر بينها العلل
مدى العفاةِ فلم تحلل به قدمٌ ... إلاّ ترحّل عنها العثر والزلل
ما إن يبالي إذا حلّى خلائقه ... بجوده أيَّ قُطريه حوى العطل
كأنّ أمواله والبذلُ يمحقها ... نهبٌ تقسمه التبذير أو نَفل
شرست بل لنتَ بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهلُ والجبل
صلى الإله على العباسِ وانبجست ... على ثرىً حَلَّهُ الوكاّفة الهطل
ذاك الذي كان لو أنّ الأنامَ له ... نسلٌ لما راضهم جبن ولا بخل
أبو النجوم الذي ما ضرَّ ثاقبها ... أن لم يكن برجه ثورٌ ولا حمل
من كلّ مشتهرٍ في كل معتركٍ ... لم يُعرف المشتري فيه ولا زُحل
يحميه لألاؤه أو لوذعيَّته ... من أن يّذال بمن أو ممن الرجل
ومشهدٍ بين حكم الذلّ منقطعٍ ... صاليه أو بجبال الموتِ متصل
ضنكٍ إذا خرست أبطاله نطقت ... فيه الصوارمُ والخطَّية الذبل
٣لا يطمعُ المرء أن يجتاب غمرتهُ=بالقول ما لم يكن جسرًا له العمل
جلّيت والموت مبدِ حرَّ صفحته ... وقد تفرعن في أفعاله الأجل
أبحتَ أو عَارهُ بالضرب وهو حِمى ... للموتِ ينبت فيه الكربُ والوهلُ
آل النبي إذا ما ظلمة طرقت ... كانوا لها سُرُجا أنتم لها شعل
قومٌ إذا وعدوا أو واعدوا غمروا ... صِدقًا مذانبُ ما قالوا بما فعلوا
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسونَ من الدنيا إذا قتلوا
أسدُ العرينِ إذا ما الموتُ صبَّحها ... أو صبَّحته ولكن غابها الأسل
تناول اغوثَ أيدي الموت قادرةً ... إذا تناول سيفًا منهم بطل
ليسقمِ الدهر أو تصحح مودته ... فاليوم أولَ يومٍ صح لي أمل
أدنيتُ رحلي لإلى مدنٍ مكارمه ... إليَّ مهتبلًا ما جئت اهتبل
إلى ثمال بني الدنيا الذي حليت ... بحلي معروفه الأمنية العطل
يحميه حزمٌ لحزم البخل مهتضم ... جودًا وعرض لعرض المال مبتذل
فكرٌ إذا راضاه راض الأمور به ... رأيٌ تفنن فيه الريث والعجل
قد جاء من وصفك التفسيرُ معتذرًا ... بالعجز إن لم يغثني الله والجَملُ
لقد لبستَ أمير المؤمنين بها ... حليًا نظاماه بيتٌ سار أو مثل
غريبةٌ تؤنس الآدابَ وحشتها ... فما تحلَّ على قوم فترتحل
وقال يمدح أبا المتسهل محمد بن شقيق الطائي
تحَمّل عنه الصبرُ يوم تحملوا ... وعادت صباه في الصبا وهي شمأل
بيومٍ كطول الدهر في عرض مثله ... ووجدي من هذا مقلتي وهي تهمل
تولّوا فولت لوعتي تحشد الاسى ... عليَّ وجاءت مقلتي وهي تهمل
ألا بكرت معذورةً حين تعذل ... تعرفني ملعيش ما لست أجهل
أأتبعُ ضنكَ الأمر والأمر مدبرٌ ... وأدفعُ في صدر الغنى وهو مقبل
محمدُ يا ابن المستهل تهللت ... عليكَ سماءٌ من ثنائي تهطل
فكم مشهدٍ أشهدته الجودَ فانقضي ... ومجدكَ يُستحيي ومالكَ يَقتل
بلوناك اما كعبُ عرضك في العلى ... فعالٍ ولكن جَدُّ مالك أسفل
تحملت ما لو حُمّلَ الدهر شطره ... لفكرّ الدهر أيَّ عبئيه أثقلَ
1 / 19
أبوكَ شقيقٌ لم يزل وهو للندى ... شقيقٌ وللملهوف ذخرٌ ومعقل
أفاد من العليا كنوزًا لو أنها ... صوامتُ مالٍ ما درى أين تجُعل
فحسبُ امرئٍ أنتَ امرؤٌ آخرٌ له ... وحسبكَ فخرًا أنه لك أول
فهل للقريضِ الغضِ أو من يصوغه ... على احدٍ إلاّ عليك معوَّل
ليهنَّ امرؤٌ يثني عليك فإنه ... يقول وإن أربى ولا يتقوَّل
سَهُلن عليك المكرمات فوصفها ... علينا إذا ما استجمعت فيك أسهل
رأيتك للسفر المطَّرد غايةً ... يؤمونها حتَّى كأنك منهل
سألتك ألاّ تسأل الله حاجة ... سوى عفوه مادمت تُرجى وتُسأل
وإياك لا إياي أمدحُ مثلما ... عليك يقينًا لا عليَّ المعول
ولا ترينَ ان العلى لك عندما ... تقولي ولكنَّ العلى حين تفعل
ولا شك انّ الخير منك سجية ... ولكنَّ خير الخيرِ عندي المعجل
وقال يمدح محمد بن حسان الضبي
أزعمتَ أنَّ الربع ليس يُتيَّمُ ... والدمعَ في دمنٍ عفت لا يسجمُ
ولقد أراكَ من الكواعب كاسيًا ... فاليوم انت من الكواعب محرمُ
يا موسم اللذاتِ غالتك النوى ... بعدي فربعك للصبابةِ موسم
لحظت بشاشتكَ الحوادث لحظةً ... مازلتُ ألعمُ أنَّها لاتسلم
أين التي كانت إذا شاءت جرى ... من مقلتي دمعٌ يُعصفره دمُ
بيضاء تسري في الظلام فيكتسي ... نُورًا وتسربُ في الضياء فيظلم
يستعذبُ الرعديد فيها حتفهُ ... فتراه وهو المستميتُ المعلم
مقسومة في الحسن بل هي غايةٌ ... فالحينُ فيها والجمالُ مقسَّم
مظلومة للورد أطلق طرفها ... في الخلق فهو معَ المنون محكم
مَذلت فلم تكتم جفاءك (تَكتَمُ) ... إنّ الذي يمقُ الملول لمغرم
أن كان وصلك آضَ وهو محرمٌ ... منك الغداة فما السلَّ محرم
عزمٌ يفلُ الجيش وهو عرمومٌ ... ويردُ ظفر الشوق وهو مقلم
وفتى إذا ظلم الزمان فما يُرى ... إلاّ إلى عزماتهِ يتظلم
لولا ابنُ حسانَ المرجى لم يكن ... بالرَّقَةِ البيضاء لي مُتَلوَّم
شافهت أسباب الغنى بمحمدٍ ... حتّى ظننت بأنها تتكلم
قد تُيَّمت منه القوافي بامرئٍ ... مازال بالمعروف وهومتيم
يحلو ويعزبُ إن زمانٌ ناله ... بغنىً وتلتاثُ الخطوبُ فيكرم
تلقاه إن طرق الزمان بمغرمٍ ... شرهًا إليه كأنما هو مغرم
لا يحسب الإقلالَ عدمًا بل يرى ... أنَّ المقلَّ من المروءة معدم
مازال وهو إذا الرجالُ تواضخوا ... عندَ التقدَّم حيثُ كان يُقدَّم
يحتل من سعدِ بنِ ضبةَ في ذُرى ... عادّيةٍ قد كللّتها الانجم
قومٌ يَمُجُّ دمًا على أرماحهم ... يوم الوغى المستبسل المستلئم
يعلون حتى مايشكّ عدُوهم ... أنّ المنايا الحمرَ حيٌّ منهم
لو كان في الدنيا قبيلٌ آخرٌ ... بإزائهم ما كان فيها مُصِرِم
ولأنت أوضحُ فيهم من غرةٍ ... شدَخَت ولا سيما حواها أدهم
تجري على آثارهم في مسلكٍ ... ما إن له إلاّ المكارم معلم
لم ينأ عني مطلبٌ ومحمدٌ ... عونٌ عليه أو إليه مسُلَّم
لم يذعر الأيام عنك كمرتدٍ ... بالعقل يفهمُ عن أخيه ويَفهمُ
ممن إذا ما الشعرُ صافحَ سمعه ... يومًا رأيت ضميره يتبسم
وقال يمدح أحمد بن أبي داود
ألم يأنِ ان تُروى الظماءُ الحوائمُ ... وان ينظمَ الشملَ المبدّد ناظمُ
لئن أرقأ الدمع الغيور وقد جرى ... لقد رويت منه خدودٌ نواعمّ
كما كاد يُنسى عهدُ ظمياء باللوى ... ولكن أملّته عليهِ الحمائم
بعثن الهوى في قلبِ من ليس هائمًا ... فقلّ في فؤآدٍ رُعنَهُ وهو هائم
لها نغمٌ ليست دموعًا فإن علت ... مضت حيث لا تمضي الدموعُ السواجم
أما وأبيها لو رأتني لأيقنت ... بطول جوىً تنقدُّ منه الحيازم
رأت قسماتٍ قد تقسَّم نضرها ... سُرى الليل والإسآد فهي سواهم
وتلويح أجسام تصدَّعُ تحتها ... قلوبٌ رياحُ الشوقِ فيها سمائم
ينال الفتى من عيشه وهو جاهلٌ ... ويُكدي الفتى في دهره وهو عالم
1 / 20