وسمعت القاضي شهاب الدين محمودا رحمه الله تعالى حين قراءة هذا الكتاب عليه يحكي أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله حتى جاء إلى قول الحريري في المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل وثمال الأرامل، أنني من سروات القبائل، وسريات العقائل. لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهر البطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب وذهبت العين وفقدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
فقال الفاضل: من أين تأتي الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عمله من المقامات ولم يظهر. أو كما قال. وناهيك بمن يقول مثل القاضي الفاضل في حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز.
وأما أنا فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته، أجد له نشوة كنشوة الراح، وبهجة ولا بهجة الساري بطلعة الصباح. وفي أي ترسل تجد نظير هذا الفصل الذي له هذه الخفة والطلاوة، ولم تروجه الأسجاع؟.
وقد ظلم المقامات من جعلها من باب الترسل، والترسل جزء منها. بل هي كتاب علم في بابه، وبلاغة الرجل تعلم من ذكره لشيء في غالب مقاماته بالمدح والذم. وهذا هو البلاغة، أن تصف الشيء ثم تذمه، أو بذم ثم تمدحه، كما فعل في مقامة الدينار، والتي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعزبة وغير ذلك.
وفصاحته تعلم من أخذه الأمثال السائرة وضمها إلى سجعة أحسن منها. كقوله: أعطيت القوس باريها وأنزلت الدار بانيها وقوله: تخلصت قابية من قوب وبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وقوله: وهل ضاعت عدتنا عدة عرقوب أو بقيت حاجة في نفس يعقوب وقوله: فلما دل شعاعه على شمسه، ونم عنوانه بسر طرسه وقوله: فبقيت أحير من ضب وأذهل من صب وقوله: أنحل من قلم وأقحل من جلم وقوله: لو كان في عصاي سير ولغيمي مطير وقوله: طويته على غره، وصنت شغاه عن قره وقوله: إنكما فرقدا سماء وكزندين في وعاء وقوله ليعلم أن ريحه لاقت إعصارًا وجدوله صادف تيارًا وقوله مأرب لا حفاوة ومشرب لم يبق له عندي طلاوة وقوله: المكنة زورة طيف، والفرصة مزنة صيف وقوله: أبعد من رد أمس الدابر، والميت الغابر وقوله: ما أطول طيلك وأهول حيلك وقوله: وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة وقوله: فأخذ يلدغ ويصي، ويتقح ولا يستحيي وقوله: أين مدب صباك، ومن أين مهب صباك وقوله: قد وجدت فاغتبط واستكرمت فارتبط وقوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك وقوله إنك حمت على ركية بكية، وتعرضت لخلية خلية وقوله ما كل سوداء، تمرة، ولا كل صهباء خمرة وقوله: كمن يبغي بيض الأنوق، ويطلب الطيران من النوق وقوله: أتعلم أمك البضاع وظئرك الإرضاع وقوله: فلما رأينا نارهم الحباحب، وخبرهم كسراب السباسب وقوله: إني لأطوع من حذائك، وأوفق من غذائك وفيها من هذا النوع كثير أضربت عنه خوف الإطالة.
وما تناهيت في بثي محاسنه ... إلا وأكثر مما قلت ما أدع
ثقافة الكاتب
قال: فإذا ركب الله في الإنسان طبعا قابلا لهذا، فيفتقر إلى ثمانية أنواع من الآلات ثم سردها.
1 / 7