أقول: ادعى أنه حمد الله تعالى وذكر اسمه، وصلى على النبي ﷺ وصلى على آله، ولم يصدر منه تحميد ولا ذكر اسم الله تعالى، إلا إن كان في أول التقليد بسم الله الرحمن الرحيم، ولا صلاة، لأنك إذا قلت حمد الله واجب، وذكر اسمه مستحب، والصلاة على رسوله وعلى آله وصحبه متعين، لم تكن أتيت بحمد ولا بذكر اسم ولا بصلاة. وإنما أخبرت عن الحمد بالوجوب، وعن الذكر بالاستحباب، وعن الصلاة بالتعيين. ومثل هذا إذا قلت: سبحان الله عدد ريش الأطيار، والحمد لله عدد موج البحار، لم تكن أتيت بتسبيح وتحميد يوازي ذينك العددين ويساويهما. وكان معنى هذا من قولك: إن الله يستحق من المحامد والتسبيح عدد ذلك.
ومثل هذه الأشياء يتعين أن يتحفظ منها، وإلا كان للطعن فيه مجال.
أقسام التصريع
قال وقد ذكر التصريع وقسمه إلى سبعة أقسام: جعل الأول ما كان كل مصراع مستقلا بنفسه، ومثله بقول امرىء القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل البيت.
وجعل المرتبة الثانية أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه. فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطا به، ومثله بقول امرىء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل البيت.
وجعل المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع أخيه. ومثله بقول ابن حجاج البغدادي.
من شروط الصّبوح في المهرجان ... خفة الشّرب مع خلو المكان
فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانيا، ومصراعه الثاني أولا. وهذه كالمرتبة الثانية في الجودة.
أقول: هذه المرتبة الثالثة أحق بأن تكون أولى من الأولى التي ذكرها هو، لأن مثل هذا النوع أعز من الأول، وفيه دلالة على تمكن الناظم وجودة طبعه.
وقد جاء منه للغزي:
لولا تذكر ما تقادم عهده ... ما راجع القلب المدلّه وجده
وكذا قوله أيضًا:
ذهب الصبا فتنقبي أو فاسفري ... لا حظّ فيك لذي قذالٍ مسفر
ولابن قلاقس الاسكندري:
الحيا من غيوثك البارقات ... والجنا من أصولك الباسقات
وكذا قوله أيضًا:
عدد ودع ذكر التصابي عدّد ... يا غافلا عمّا يراه في الغد
ولابن الساعاتي:
ما كنت بالباكي ولا المتباكي ... لولا وقائع طرفك الفتاك
وكذا قوله أيضًا:
بالله يا رسل الرياح ... كيف السبيل إلى جناح
ألا ترى أن كل بيت من هذه الأبيات فيه ما في الذي جعله أولا وزيادة، فهو أولى بالتقديم، ويشترط فيه أن يكون كل مصراع منه مستقلا بنفسه، غير محتاج إلى غيره مع إمكان جعل الصدر عجزا والعجز صدرا.
وقد واخذه ابن أبي الحديد في تقسيم التصريع في كتابه ولم يتنبه لهذا.
كلامه على التجنيس
قال في التجنيس: القسم الثاني من المشبه بالتجنيس أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن، مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير.
ثم مثله بقوله تعالى: " وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ". ومثل بقوله تعالى " وهم ينهَوْن عنْهُ وينأوْن عنه " ثم قال: وعلى نحو من هذا ورد قوله ﷺ: الخيل معقود بنواصيها الخير وقول أبي تمام:
يمدون من أيدٍ عواصٍ عواصم ... تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب
وقول البحتري:
من كل ساجي الطّرف أغيد أجيدٍ ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور
ثم قال: وكذلك قوله:
شواجر أرماحٍ تقطع بينها ... شواجر أرحامٍ ملومٍ قطوعها
أقول: قد صدر التقسيم بأن تكون الألفاظ متساوية الوزن مختلفة التركيب بحرف واحد، وما صدق معه من الأمثلة التي ذكرها إلا قوله تعالى: " وهم ينهَوْن عنْهُ " الآية وقوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة " الآية والحديث الذي ذكره. وأما عواص وعواصم، وقواض وقواضب، فإن إحدى اللفظتين زادت على الأخرى بحرف ولم تخالف، وكذا أرحام وأرماح، إحدى اللفظتين خالفت الأخرى بحرفين في الترتيب. ففات ما شرطه، ولا دخول لهذا فيما ذكره.
وقد أورد عليه ابن أبي الحديد في التجنيس أشياء وما تنبه لهذا. وقد خبط ابن الأثير في التجنيس تخبيطا كثيرًا وما أحسن في ترتيبه.
1 / 32