وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كلٍ منهما في جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحّه
انظر إلى هذه القافية الثالثة ما أحلاها وأمكنها لا يقوم غيرها مقامها، ولو وقعت في غير القافية لما كان لها هذه الحلاوة والتمكن. وكذا لفظة لي في قول أبي الطيب.
ومن هذا التمكن في القافية، قول ابن أبي هلال القيرواني من أبيات:
يهدي إلى العليا فما من سالكٍ ... طرق العلا إلا وكان دليله
فضل الورى في الفضل حتى إنّه ... لو قيل من فذّ الأنام؟ لقيل: هو
وما أحسن ما استعمل القاضي الفاضل رحمه الله تعالى لفظة لي في القافية حيث قال:
ومدحت أهل البيت منكم بالذي ... شهد الرجال بأن ذاك البيت لي
هل سورة النجم مسجوعة على حرف الياء؟
قال في هذا القسم وقد استطرد الكلام إلى قوله تعالى: " تلك إِذن قِسمةٌ ضِيزي " إن سورة النجم مسجوعة على حرف الياء.
أقول: ليس الاعتبار في رؤوس القرائن والقوافي بصورة الخط، إنما العبرة باللفظ. والسورة مسجوعة على حرف الألف المقصورة. ولكنه غره رسم رؤوس الآي بالياء نظرا إلى أصل الكلمة. ولا قائل بأن صغرى وكبرى وضيزى ومأوى ومنتهى، وما أشبه ذلك، إذا وقع في رؤوس الآي، أو في قافية البيت على حرف الياء، بل كل ذلك من باب الألف المقصورة في مثل حبلى ودنيا، وإنما كتب ذلك بالياء نظرا إلى أصل الكلمة لكونها من ذوات الياء. فإنك تقول: المأوى من أويت، والمنتهى من انتهيت، وهوى من هويت، وغوى من غويت.
وإذا كان الأصل في الكلمة الواو كتب ذلك بالألف. مثل دنيا لأنه من دنوت، ورجا من رجوت في أحد القولين. وزعم بعضهم أن ذلك لكراهية الجمع بين المثلين. وما أظن بابن الأثير ﵀ أنه جهل هذا، ولكنها غفلة ليس إلا
مناسبة اللفظ للمعنى
ونماذج من خطب ابن نباته
قال أيضًا في هذا القسم وقد أورد قول الفرزدق:
ولولا حياءٌ زدت راسك شجةً ... إذا سبرت ظلت جوانبها تغلي
شرنبثةٌ شمطاء من ير ما بها ... تشبه ولو بين الخماسي والطفل
إن شرنبثة من الألفاظ التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي ها هنا غير مستكرهة، إلا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة، لعيب ذلك على مستعمله.
أقول: قبل هذا بأسطر قليلة أورد قول تأبط شرا:
يظلّ بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المسالك
وقال: لفظة جحيش من الألفاظ المنكرة القبيحة.
فيقال له: سبحان الله ما بالعهد من قدم، تناقض قولك في صفحة واحدة، وأنا أرى أن جحيشا أخف على السمع من شرنبثة ولو وردت هذه شرنبثة في النيل كدرته، وأحالت فراته العذب إلى الملح الأجاج وغيرته، ولو كانت خالا في وجنة الشمس هجنتها، وألغت محاسنها التي أنارت الأيام وزينتها.
قال: وقد ورد في خطب الشيخ الخطيب ابن نباتة، كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال القيامة فقال: اقمطر وبالها واشمخر نكالها، فما طابت ولا ساغت.
أقول: إن الخطيب ﵀ من البلغاء الفصحاء الذين يوردون الكلام موارده، ويعطون كل مقام ما يستحقه، لأن ذكر النار والقيامة أمر مهول ويحتاج إلى ألفاظ مفخمة تهول السمع وتسيل الدمع وتقشعر لها الجلود وتنفطر لها الكبود. ولا يليق بأوصاف النار غير هذه الألفاظ مثل: اقمطر واشمخر واسبطر وازبأر واكفهر واقشعر وابذعر واطلخم وادلهم، واقتحم واحتدم.
الموضوعات والألفاظ
كما أن أوصاف الجنة لها ألفاظ تخصها عذبة سهلة لذيذة إلى السمع. مثل: لان نسيمها، ودام نعميها، ورف ظرها، وراق زلالها، وعذب تسنيمها.
ألا ترى أن المديح له ألفاظ تخصه، والهجاء له ألفاظ تخصه. فيذكر الرأس والفرق في المديح، والدماغ والقذال في الهجاء.
ووصف أبو زبيد الطائي للأسد بحضرة الصحابة بمجلس عثمان ﵁ مما يؤيد هذا الكلام. من جملة ذلك أنه قال:
1 / 30