قال في الفصل الثامن في الفصاحة والبلاغة عند ذكر البلاغة، بعد أن قرر أن البلاغة للمعاني والفصاحة للألفاظ: البلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة، كالإنسان من الحيوان. فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسانًا. وكذلك يقال: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا ويفرق بينها وبين الفصاحة من كل وجه آخر غير الخاص والعام، وهو أنها لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب، فإن اللفظة الواحدة لا يطلق عليها اسم البلاغة، ويطلق عليها اسم الفصاحة، إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن. وأما البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلامًا.
أقول: قد ادعى أن هذا الفارق الثاني غير الأول، وهو هو بعينه ومينه. فإنه أراد أولا، كل كلام فصيح يطلق عليه أنه بليغ ولا ينعكس. ومعنى هذا، إذا قلنا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فإن هذا الكلام بليغ باعتبار أن معناه بلغ في صوغ تركيبه إلى حد له توفية بتمام المراد. وفصيح باعتبار بيان مفرداته وحسنها وعذوبتها في السمع. وإذا فككنا هذا التركيب وأخذنا كل فرد من ألفاظه، كان كل فرد فصيحا، ولا يكون بليغا لعدم التركيب في المعنى. فكانت الفصاحة أعم من البلاغة لأنها وجدت في الإفراد والتركيب. وكانت البلاغة أخص لكونها لا تتناول إلا المركب فقط. فحيث وجدت البلاغة مع عذوبة الألفاظ وجدت الفصاحة ولا ينعكس. فصح أن البلاغة كالإنسانية في خصوصها، والفصاحة كالحيوانية في عمومها. وهذا المعنى موجود بعينه في الفارق الثاني الذي أبداه. فإنه قال: إن البلاغة لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب.. إلى آخره فتأمل كلامه يظهر لك ما قلته.
تحديد معنى البلاغة والفصاحة
والذي أقوله أنا: هو أن بين البلاغة والفصاحة، عموما من وجه وخصوصا من وجه. بيان ذلك: أما عموم البلاغة، فلأنها تتناول الكلام الفصيح أعني الحسن المبين، وغير الفصيح أعني الغريب الوحشي. وعموم الفصاحة، فلأنها تتناول الألفاظ المركبة فقط، وخصوص الفصاحة، فلأنها لا تتناول إلا الألفاظ العذبة المستعملة فقط. فثبت أن بين البلاغة والفصاحة عموما من وجه، وخصوصا من وجه. ومثل هذا لا يتنبه له ابن الأثير.
أقسام علم البيان
قال في هذا الفصل: وأما أقسام علم البيان من الفصاحة والبلاغة، فليست كذلك لأنها استنبطت بالنظر وقضية العقل من غير واضع اللغة، ولم يفتقر فيها إلى التوقيف، بل أخذت ألفاظ ومعان على هيئة مخصوصة وحكم لها العقل بمزية الحسن لا يشاركها فيها غيرها. فإن كل عارف بأسرار الكلام من أي لغة كانت من اللغات، يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ حسنة رائقة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع، خير من إخراجها في ألفاظ قبيحة مستكرهة ينبو عنها السمع. ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك ما قلدناه.
أقول: قد ادعى أن ذلك عقل صرف. فإن أراد بالبيان الذي اصطلح عليه أرباب البلاغة، وهو أحد أقسام علم البلاغة الذي يطلق على معرفة الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة والكناية، فإن من المجاز ما هو لغوي كالصلاة، استعملها الشارع في هذه الهيئة المخصوصة المشتملة على القيام والقراءة والركوع والسجود والذكر والسلام والدعاء. وهي في أصل اللغة إنما تطلق على الدعاء الذي هو جزء هذه الهيئة فسماها باسم جزئها، فقد توقفت معرفة هذا المجاز على حقيقته، وتلك الحقيقة لا تعرف إلا بالنقل لا بالعقل، والمتوقف على المتوقف على معرفة الشي متوقف على ذلك الشيء.
الاستعارة والكناية
وأما الاستعارة، فاختلف علماء البيان، هل هي مجاز لغوي أو عقلي. فذهب الأكثرون إلى أنها مجاز لغوي خلافا لصاحب المفتاح فإنه ذهب إلى أنها عقلية. ودليل الأكثرين أنك إذا قلت: عندي أسد شاكي السلاح، وأنت تريد الرجل الشجاع، كان لفظ الأسد عند التحقيق مستعملًا في غير ما وضع له، لأنك تفهم أنه عنده رجل شبهه بالأسد. وإنما حذف أداة التشبيه مبالغة، والألف والسين والدال فهم معناها متوقف على النقل.
وأما الكتابة فمن أقسامها قسم يتوقف على النقل. كقول الشاعر:
أخو لخم أعارك منه ثوبًا ... هنيئًا بالقميص المستجد
أراد أبوك أمك حين زفت ... فلم يوجد لأمك بنت سعد
1 / 12