لهذا نظن أن المتوحش اهتدى إلى الزراعة بواسطة القبور ومن هنا نشأت أيضا آلهة الزراعة. فقد رأينا أن المتوحش يدفن مع الميت طعاما كالذي كان يأكله في حياته. كاللحم والحبوب والأثمار. وعملية الحفر التي يحتاجها الدفن تفتت التربة، وبالتالي تهيئها لنبت البذور.
فإذا ما دفن الميت اليوم لا تمضي عدة أيام حتى يرى أهله أن الزرع قد جلل قبره؛ فيعللون ذلك بأن روحه قد رضت عنهم بما قدموه لها من الطعام وكافأتهم بهذه النباتات. ولا يغب عن القارئ أن هذه النباتات تنمو قوية فوق القبر - أقوى من نباتات نوعها التي في الغابة - لأن لحم الميت وطعامه يصيران سمادا لها، كما أن تفتيت التربة عند الحفر يزيل الحشائش القديمة ويسهل تغذية النباتات.
لا نعجب بعد ذلك أن نرى المتوحش يعتقد في أن نبات القبر ليس إلا معجزة من معجزات روح الميت. فالمزرعة هي في الحقيقة مقبرة. ولهذا السبب ما زال بعض قبائل أمريكا الجنوبية الوطنيين يقتلون شخصا عند وقت بذر التقاوي؛ لأنهم بذلك يفكون روحه من جسمه لتكون إلها ينمي الزرع. وقد رأينا منطق هذا العمل في الفصل السابق حيث كان يقتل شخص عند بناء قرية جديدة لكي تكون روحه ربة القرية تحرسها وتبيد أعدائها.
فالإنسان اهتدى إلى الزراعة بواسطة الحبوب التي كان يضعها مع الميت اعتقادا بأنه سيأكلها ونشأت آلهة الزراعة من اعتقاد أن روح الميت هي التي أخرجت الزرع وصار بالتالي ضروريا لكل زرع من روح لكي تنبته. وهذه القبيلة التي ذكرناها في جنوب أمريكا إذا قتلت شخصا عند بذر البذور قطعت جسمه نسائر وأعطت كل مزارع قطعة لكي يدفنها في أرضه؛ وبذلك يضمن مجيء الروح إلى مزرعته وإنماء زرعها. ولعل حفلة «تبريك الحقول» التي يقوم بها القساوسة في فرنسا حاملين «البرشانة» بين الحقول بقية أثرية من بقايا تلك العادة القديمة؛ لأن البرشانة تمثل عند الكاثوليك جسد المسيح. وقد كان المصريون يذبحون شخصا أشقر كل سنة لإنماء محاصيلهم، وكان غيرهم كالرومان يستعيضون عن ذبح البشر بذبح الحيوانات كالقطط وغيرها لهذا الغرض عينه أيضا. وترى هذه العادة ممسوخة في بعض البلاد الأوروبية حيث يستعيضون الآن عن الذبيحة البشرية أو الحيوانية بصورة بشرية يمزقونها ويفرقون أجزائها بعد أن يزفوها في مهرجان بين الحقول. (13) آلهة النبيذ والغلال
رأينا في الفصل السابق أن بعض القبائل كانت ولا زالت تذبح شخصا أو حيوانا عند وقت بذر البذور من كل عام. والسبب في تكرار هذا العمل سنويا هو اعتقادهم أن روح الذبيحة تتجسد في الزرع وتبعث في المحاصيل فإذا حصد الزارع زرعه من الأرض اعتقد أنه اقتلع الروح أيضا من الأرض مع الزرع فهو لذلك يذبح ذبيحة أخرى عند بذر البذور الثانية لكي تقوم روحها مقام الروح السابقة وتنمي المحصول الجديد.
وقد يكون بين هذه الذبائح البشرية من كان شخصه ومركزه عظيمين في حياته - وكلما كبر مقام شخص في الدنيا كبر مقامه في العالم الآخر - فتعتبر روحه في مركز أعلى من مراكز الأرواح الأخرى وربما ألهوها وخلدوا ذكرها بخلاف الأرواح الأخرى التي لا يزيد حد عمرها عن عام واحد؛ أي مدة استواء المحصول فقط. ومن هنا نشأت الآلهة: ديونيس وأتيس وأدونيس.
وقد كانت الذبائح تقدم لهذه الآلهة سنويا اعتبارا بأنها - الآلهة - تتجسد في الذبيحة وتصير هي والذبيحة كائنا واحدا فيأخذ كل من المزارعين قطعة من الذبيحة معتقدا أنها جزء من جسد الآلهة يدفنه في مزرعته لكي ينمي زرعه؛ ولهذا السبب كانت الضحية التي تقدم لهذه الآلهة تسمى باسم الإله الذي تقدم له - لأنه تجسد فيها - وكان المضحون يبكون على الضحية لأنهم إنما يذبحون فيها إلههم. ويجب ملاحظة ما قلناه هنا لما سنقوله عن المسيحية. (14) الضحية والدم
قد رأينا فيما سبق أن للضحية باعثين؛ الأول: هو الاعتقاد بأنها تقدم كطعام للروح أو الإله. والثاني: هو الاعتقاد بأن الإله ذاته يتجسد فيها وتدفن أجزاؤها في الحقول لكي تنمي الزروع.
إلى هنا لم نتكلم عن أكل الناس الأحياء للضحية. فقد رأينا الضحية تجزأ وتدفن في الحقول باعتبار أنها إله، ورأينا القربان أيضا يوضع للميت اعتبارا بأنه سيجوع ويأكله. وسنتكلم الآن عن أصل عادة أكل الناس للضحايا.
من الشائع بين عوام مصر أن من أكل قلب ذئب صار قويا مثل الذئب، ويعتقدون في الهند أن من يأكل نمرا يصير شجاعا جريئا كالنمر. لهذا لما نشأت عادة ذبح الآلهة المتجسدة في الضحية ورد على خواطر المضحين أن يأكلوا هم أيضا قطعة من جسم الإله حتى يصيروا مثله في صفاته على نحو ما يفعل أكل الذئب والنمر. فصاروا يضعون جزءا من الضحية المؤلهة في الأرض ويأكلون جزءا آخر منها. وهذا صيد العصفورين بحجر واحد: مباركة الحقل وتقوية الجسم. كذا تفعل قبائل الغوند. وكذا أيضا كان يفعل المكسيكيون؛ فإنهم كانوا إذا أرادوا التضحية قبضوا على أسير من أسرى حروبهم وعاملوه معاملة الملوك مدة عام يقتلونه باحتفال عظيم في نهايته ويأكلونه. وبمضي الزمن ارتقى الإنسان من التضحية البشرية إلى التضحية الحيوانية الحاضرة في أعياده. وفي طريقة الذبح عند العرب والعبرانيين الآن بقايا أثرية من عوائد التضحية القديمة؛ فإنهم يذبحون الآن «باسم الله» ويتطلبون إراقة الدماء من المذبوح والدم هو في العادة الجزء الذي يشتهيه الإله؛ لأنه - بخلاف اللحم - يجف فيظن الرائي أن الإله قد شربه.
Shafi da ba'a sani ba